سنة متروكة يجب إحياؤها
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة - الأحاديث رقم (31 - 32):
استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بإقامة
الصفوف وتسويتها ، بحيث يندر أن تخفى على أحد من طلاب العلم فضلاً عن
الشيوخ ، ولكن ربما يخفى على الكثيرين منهم أن إقامة الصف تسويته بالأقدام
، وليس فقط بالمناكب ، بل لقد سمعنا مراراً من بعض أئمة المساجد – حين
يأمرون بالتسوية – التنبيه على أن السنة فيها إنما هي بالمناكب فقط دون
الأقدام ، ولما كان ذلك خلاف الثابت في السنة الصحيحة ، رأيت أنه لا بد من
ذكر ماورد من الحديث ، تذكيراً لمن أراد أن يعمل بما صح من السنة ، غير
مغتر بالعادات والتقاليد الفاشية في الأمة.
فأقول : لقد صح في ذلك حديثان:
الأول : من حديث أنس.
والآخر : من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما .
أما حديث أنس فهو:
31- (أَقِيمُوا صُفُوفَكُم ْ وتراصوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي).
رواه البخاري ،وأحمد من طرق عن حميد الطويل : ثنا أنس بن مالك قال :
(أقيمت الصلاة ، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه ، فقال :
(فذكره).
زاد البخاري في رواية : (قبل أن يكبر) ، وزاد أيضا في آخره : (وكان أحدنا
يلزق منكبه بمنكب صاحبه ، وقدمه بقدمه).
وهي عند المخلص ، وكذا ابن ابي شيبة
بلفظ : (قال أنس : فلقد رأيت احدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه ،
فلو ذهبت تفعل هذا اليوم ، لنفر أحدكم كأنه بغل شموس).
وترجم البخاري لهذا الحديث بقوله (باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف).
وأما حديث النعمان فهو:
32- (أَقِيمُوا
صُفُوفَكُمْ [ثَلَاثًا] وَاللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ
لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).
وفي هذين الحديثين فوائد هامة:
الأولى : وجوب إقامة الصفوف وتسويتها والتراص فيها ،
للأمر بذلك ، والأصل فيه الوجوب ، إلا لقرينة ، كما هو مقرر في الأصول ،
والقرينة هنا تؤكد الوجوب ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) ، فإن مثل هذا التهديد لا يقال فيما ليس بواجب ، كما لا يخفى.
الثانية : أن التسوية المذكورة إنما تكون بلصق المنكب بالمنكب ، وحافة القدم بالقدم
، لأن هذا هو الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم حين أمروا بإقامة الصفوف ،
والتراص فيها ، ولهذا قال الحافظ في (الفتح) بعد أن ساق الزيادة التي
أوردتها في الحديث الأول من قول أنس:
(وأفاد هذا التصريح أن الفعل
المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبهذا يتم الاحتجاج به على
بيان المراد بإقامة الصف وتسويته).
ومن المؤسف أن هذه السنة من التسوية
قد تهاون بها المسلمون ، بل أضاعوها ، إلا القليل منهم ، فإني لم أرها عند
طائفة منهم إلا أهل الحديث ، فإني رأيتهم في مكة سنة (1368هـ) حريصين على
التمسك بها كغيرها من سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام ، بخلاف غيرهم من
أتباع المذاهب الأربعة – لا أستثني منهم حتى الحنابلة – فقد صارت هذه
السنة عندهم نسياً منسياً ، بل إنهم تتابعوا على هجرها والإعراض عنها ،
ذلك لأن أكثر مذاهبهم نصت على أن السنة في القيام التفريج بين القدمين
بقدر أربع أصابع ، فإن زاد كره ، كما جاء مفصلاً في (الفقه على المذاهب
الأربعة)(1\ 207) ، والتقدير المذكور لا أصل له في السنة ، وإنما هو مجرد
رأي ، ولو صح لوجب تقييده بالإمام والمنفرد حتى لا يعارض به هذه السنة
الصحيحة ، كما تقتضيه القواعد الأصولية.
وخلاصة
القول : إنني أهيب بالمسلمين – وبخاصة أئمة المساجد – الحريصين على اتباعه
صلى الله عليه وسلم ، واكتساب فضلية إحياء سنته صلى الله عليه وسلم ، أن
يعملوا بهذه السنة ، ويحرصوا عليها ، ويدعوا الناس إليها ، حتى يجتمعوا
عليها جميعاً ، وبذلك ينجون من تهديد : ( أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).
وأزيد في هذه الطبعة فأقول:
لقد بلغني عن أحد الدعاة أنه يهون من شأن هذه السنة العملية التي جرى
عليها الصحابة ، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، ويلمح إلى أنه
لم يكن من تعليمه صلى الله عليه وسلم إياهم ، ولم ينتبه – والله أعلم –
إلى ذلك فهم منهم أولاً ، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أقرهم عليه ثانياً ،
وذلك كاف عند أهل السنة في إثبات شرعية ذلك ، لأن الشاهد يرى ما لا يرى
الغائب ، وهم القوم لا يشقى متبع سبيلهم.
الثالثة : في الحديث الأول معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي رؤيته صلى الله عليه وسلم من ورائه ،
ولكن ينبغي أن يعلم أنها خاصة في حالة كونه صلى الله عليه وسلم في الصلاة
، إذ لم يرد في شئ من السنة أنه كان يرى كذلك خارج الصلاة أيضاً ، والله
أعلم.
الرابعة
: في الحديثين دليل واضح على أمر لا يعلمه كثير من الناس ، وأن كان صار
معروفاً في علم النفس ، وهو أن فساد الظاهر يؤثر في فساد الباطن ، والعكس
بالعكس ، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة ، لعلنا نتعرض لجمعها
وتخريجها في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى .
الخامسة : أن
شروع الإمام في تكبيرة الإحرام عند قول المؤذن : (قد قامت الصلاة) بدعة ،
لمخالفتها للسنة الصحيحة ، كما يدل على ذلك هذان الحديثان ، لا سيما الأول
منهما ، فإنهما يفيدان أن على الإمام بعد إقامة الصلاة واجباً ينبغي عليه
القيام به ، وهو أمر الناس بالتسوية ، مذكراً لهم بها ، فإنه مسؤول عنهم : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ .........).
منقول لأهميته
http://www.alalbany.net/misc047.php