لأني مولع باللغة العربية ولا أجد انسب موضع من وضع هذا الموضوع فيه إلا هنا للعلاقة بين كتاب الله واللغة العربية بصفة عامة
إصلاح الأغلاط الشائعة في اللغة العربية (1) (*)
لقد نهضت لغة القرآن الكريم – و لله الحمد و المنة – نهوضا مباركا في جميع الآفاق , و أحس أبناؤها نزعة نفسية تدفعهم إلى ربط طريف مجدهم بتليده , و حديث تاريخهم بقديمه , فاتجهوا إلى العربية في أزهى عصورها و أنضر عهودها , يتخيرون أرق ألفاظها و أقوى أساليبها و أروع أخيلتها , فامتلأت كتاباتهم بالطريف النادر , و أشعارهم بالرقيق الساحر , و خطبهم بالجزل الرصين , و من وازن بين حالي اللغة الشريفة في عصر نهضتنا هذه و في العصر السابق عليه عصر السبات و الظلام , رأى الفرق جسيما و البون عظيما , و دهش كيف أن ابنة عدنان استطاعت في هذه الفترة القصيرة من أعمار الأمم و أدهار التاريخ أن تخطو هذه الخطوات الواسعة , و أنها تبقى كامنة خادرة حتى إذا وجدت السبيل أمامها مذللة , و الطريق معبدة , وثبت وقبة تطوى لها الأرض , و تطأطئ لها الجبال , و إن نظرة في تاريخ الفصحى تدل على أنها تنقبض في صدفها و لا تموت , و تنصل في ألواحها و لا تمحى { إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون } فقد أصابت العربية أحداث , و مستها قروح كان أقلها كافيا لهدم أقوى اللغات ركنا و أمنعها حصنا من غارات للأعجمية ذهبت بالرطب و اليابس و جولات للشعوبية كادت تقضي على الشرف الخالد و المجد التالد :
و مع هذا أيها السادة بقيت اللغة العربية تنظر إلى الأحداث شزراً , و تسخر من الخطوب , فقام رجال في هذا العصر في كلا بلاد العربية بنصرتها و شد أزرها و الإشادة بمجدها.
لهذا أيها السادة تروننا لا نألوا جهدا في تطهيرها من أدران اللحن , تنقيتها من فاسد الأساليب , لأن الشعور بالنقص أول مراتب الكمال , و لأن أبا الطيب يقول :
و لم أر في عيوب الناس شيئا *** كنقص القادرين على الكمال
و لو أنّ كلّ أديب نبّه إلى خطأ فأصلحه , أو فساد تعبير فتجنبه , لطهرت اللغة من شوائب النقص في زمن قصير , و إلى الشباب ندائي , و إلى أبناء العربية رجائي أن يكون لهذه المحاضرات أثرها النافع إن شاء الله تعالى
و لنبدأ بالكلام في الموضوع فنقول :
- يخطئ كثير من الشادين في الكتابة فيستعملون فعلا لا وجود له في العربية و هو (( تضامن)) فيقولون مثلا : يجب أن نتضامن في هذا الأمر و هذا المشروع يحتاج إلى التضامن , يريدون أنّه يحتاج إلى بذل الجهد المشترك مع ثقة كل شخص بأخيه
و من العجيب أن هذا الفعل المصنوع الزائف انتشر على ألسنة المثقفين انتشارا عظيما , خير فعل يحلّ مكانه و يؤدي معناه الفعل ((تواثق)) و مصدره التواثق , قال كعب بن زهير :
ليوفوا بما كانوا عليه تواثقوا *** بخيف منى و الله راءٍ و سامعُ
أي : ليوفوا بالأمر الذي تعاهدوا عليه و اتفقوا على بذل الجهد فيه متحدين متواثقين , و يشبه خطأهم في استعمال هذا الفعل الذي لا أصل له في اللغة استعمالهم الفعل تكاتف , فيقولون : يجب أن نتكاتف في هذا الأمر , بمعنى نتعاون , و نجاح هذا المشروع موقوف على التكاتف , و هذا الفعل تكاتف لم يرد في كتب اللغة المعتمدة , و الكلمات الصحيحة في هذا المعنى كثيرة فلسنا بحاجة إلى ابتكار فعل جديد نشتقه من الكتف , ففي الاستطاعة أن نقول : نتعاون ونتعاضد و نتساند و نتآزر , و لا بد من المعاونة و التعاضد و التساند و المؤازرة .
-و من الغلط أنهم يجمعون الأبله على بلهاء , و هذا من أعجب العجب , لأن أَفْعَل الذي مؤنثه فَعلاء , كأبله و بلهاء لا يجمع جمع تكسير إلا على : فُعْل , أما بلهاء فإذا صحّ فإنّه يوجب أن يكون في اللغة : بليه و باله , و ليس لهما وجود فيها , فالصواب أن يجمع الأبله على بله , كما يجمع الأحمق على الحمق , و الأعرج على العرج.
- و من الغلط الفاشي قولهم : تحسنت الصناعة عن ذي قبل , و زيادة (( ذي )) قبل الكلمة ((قبل)) غلط لأنه لا معنى له و لأن العرب لم تستعمل هذا التركيب , و لم تجىء كلمة قبل في لغتها مسبوقة بذي, و إنما تقول في التركيب السابق : تحسنت الصناعة عما كانت عليه من قبل .
أما ذي فإنها لا تدخل على قبل , و إنما تدخلها العرب على قبل – بفتحتين- لمعنى غير هذا المعنى , فتقول : أفعل ذلك من ذي قُبَل , أي : فيما استقبل من الزمان , و لا شك أن الغرضين مختلفان , و أن قُبَل غير قَبْل.
- و يغلطون فيقولون : تقضي آداب اللياقة بكذا , كأنهم يجعلون اللياقة مصدرا للفعل , لأن يليق و هو ليس له بمصدر , لأنّه لم يسمع بين مصادره و لأنه لا يدل على حرفة حتى ينقاس , و إنما مصدره الصحيح : الليق و الليقان , فالواجب أن نقول : تقضي آداب الليق و الليقان بكذا , و لو أننا أبدلنا ياء اللياقة باءً , فقلنا اللباقة – بالباء – لأصبنا شاكلة الصواب , فإن العرب تقول : هذا الأمر يلبق بك و لا يليق بك أي لا يحسن فمن السائغ لنا أن نقول : تقضي آداب اللباقة بكذا.
- و من الأغلاط الفاشية قولهم : حادث مريع , فيصوغون اسم الفاعل و هو مريع من الفعل أراع , و لا أثر لهذا الفعل في اللغة و إنما يقال : راعني الأمر و روعني , بمعنى : أخافني و أفزعني و لا تقل أراعني , فالصواب أن يقال : حادث مروع , و يصح أن تقول : حادث رائع , بمعنى : مفزع أيضاً و لكن الرائع يأتي لمعنى آخر , فقد يكون لما يعجب الناس بحسنه و جهارة منظره أو شجاعته , تقول : جمال رائع و الأصل في ذلك كلّه الروع , و هو القلب أو موضع التأثر منه , و زللهم هذا يشبه في قولهم : هذا فعل مُشِين – بضم الميم – و ما هذه الأفعال المُشينة ؟ و هذا غلط صارخ , لأنه ليس بين أفعال اللغة (أشان) و إنما الفعل شانه و يشينه شيناً بمعنى : عابه فالصحيح أن يقال : عمل شائن , أو : عمل مَشين – بفتح الميم – على أنه اسم مفعول أي أنه عمل يعيبه الناس و يشينوه.
- و من الغلط قولهم : زرتك و الساعة تسع , مثلا , و وجه الغلط فيه أن الساعة هنا مبتدأ , و من القواعد الأولى في العربية وجوب مطابقة الخبر المبتدأ , فإذا كان المبتدأ مفرداً وجب أن يكون الخبر مفردا , و الساعة هنا مفرد يدل على شيء واحد ما في ذلك ريب , و تسع تدل بوضعها على أكثر من شيء واحد , أي أنها تدل على تسعة معدودات , فانتفت المطابقة و اضطرب الكلام , هبْك قلت : التفاحة تسع , أو: الدواة تسع , أتظن هذا قولا تسيغه نفسك أو يستسيغوه سامعوك؟ و لكن الألسن جرت على هذا اللحن و لم تضجر له الآذان , لأنه شاع في العامية فلما نقل إلى العربية كان له في النفس مكان مأهول , و الصواب – إن أريد التشبث بهذا التركيب – أن تقول : زرتكتك و الساعات تسع , أو أن تقول كما يقول الناس : زرتك في الساعة التاسعة .
- و يقولون : هذا الشيء يجلب الشهية للطعام , أو : يذهب بالشهية . و كلمة الشهية بهذا المعنى غلط هنا لا ندري من أين جاءت , و إنما الشهية : مؤنث الشهى , و الشهى : الشيء المشتهى و اللذيذ , و لا شك أن الكلام لا يستقيم البتة حين نقول : هذا الشيء يجلب الشهية للطعام , إذ يكون معناه هذا الشيء يجب اللذيذة للطعام و هذا هراء , فالصواب أن يقال : هذا الشيء شه للطعام أو يشهي الطعام أي يجمل على اشتهائه.اهـ ص ( 227 / 229 ) طبعة دار الشروق.
...............يتبع بإذن الله مع المقالة الثانية في بيان الأخطاء الشائعة في اللغة العربية .
ـــــــــــــــــــــــــ ــــ
(*) نشرت بمجلة الراديو المصري بالعدد 181 في 30 سبتمبر 1938 ص 8 و لقد تعرض المرحوم(أ) لهذا الموضوع الهام و قد فيه سلسله من الأحاديث الإذاعية . (أحمد علي الجارم).
(أ) هكذا جاءت عبارة جامع الكتاب أحمد علي ابن الأديب علي الجارم , و كما هو مقرر و معلوم من عقيدة أهل السنة بعدم جواز الشهادة لأحد كائن من كان بالجنة أو الرحمة إلا من ورد في حقّهم نص ثابت .
فتوى الشيخ العلامة المجدد ابن باز رحمه الله :
حكم القول للميت: المغفور له، أو المرحوم
ما هي العبارات التي تطلق في حق الأموات فنحن نسمع عن فلان (المغفور له) أو (المرحوم) فهل هذه العبارات صحيحة؟ وما التوجيه فـي ذلك؟
المشروع في هذا أن يقال: (غفر الله له) أو (رحمه الله) ونحو ذلك إذا كان مسلما، ولا يجوز أن يقال: (المغفور له) أو (المرحوم)؛ لأنه لا تجوز الشهادة لمعين بجنة أو نار أو نحو ذلك، إلا لمن شهد الله له بذلك في كتابه الكريم أو شهد له رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الذي ذكره أهل العلم من أهل السنة، فمن شهد الله له في كتابه العزيز بالنار كأبي لهب وزوجته، وهكذا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وبقية العشرة رضي الله عنهم وغيرهم ممن شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة كعبد الله بن سلام وعكاشة بن محصن رضي الله عنهما، أو بالنار كعمه أبي طالب وعمرو بن لحي الخزاعي وغيرهما ممن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار نعوذ بالله من ذلك نشهد له بذلك.
أما من لم يشهد له الله سبحانه ولا رسوله بجنة ولا نار فإنا لا نشهد له بذلك على التعيين، وهكذا لا نشهد لأحد معين بمغفرة أو رحمة إلا بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل السنة يرجون للمحسن ويخافون على المسيء، ويشهدون لأهل الإيمان عموما بالجنة وللكفار عموما بالنار، كما أوضح ذلك سبحانه في كتابه المبين قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا[1] الآية، من سورة التوبة، وقال تعالى فيها أيضا: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ[2] الآية، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الشهادة بالجنة أو النار لمن شهد له عدلان أو أكثر بالخير أو الشر لأحاديث صحيحة وردت في ذلك.
[1] سورة التوبة من الآية 72.
[2] سورة التوبة من الآية 68.
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة الجزء الخامس.