من كتاب: "تصحيح المفاهيم في جوانب من العقيدة", لفضيلة الشيخ العلامة/ محمد أمان بن علي الجامي -رحمه الله تعالى- أنقل:
... وإذا ما عزلت النصوص كما رأينا, ولم تعد تصلح للاستدلال بها على سبيل الاستقلال, فلم يبق إلا أن يرجع الناس إلى ما كانوا عليه قبل الوحي وهو التحاكم إلى العقول, فنتيجة لذلك خاضوا بعقولهم في المطالب الإلهية فتكلموا في صفات الله, فاختلفت العقول وتنازعت -ولابد أن تتنازع- فافترقوا فرقاً مختلفة يضلل بعضهم بعضاً, بل ربما كفر بعضهم بعضاً, وكلهم على غير هدى طبعاً على تفاوت في ضلالهم:
1- فريق يثبت بعض الصفات وينفى البعض الآخر بدعوى أن ذلك مقتضى العقل, وبعبارة صريحة: إن عقول الأشاعرة والماتريدية تثبت صفات الذات: كالقدرة والإرادة والعلم مثلاً, ثم ترى وجوب تأويل صفات الأفعال: كالرحمة والمحبة والغضب والاستواء على العرش وغيرها من صفات الأفعال. هذا مقتضى عقول الأشاعرة وأتباعهم.
2- أما المعتزلة فقد انقسموا على أنفسهم فافترقوا عدة فرق, فأقربهم من يثبت الأسماء مع نفي الصفات مع ملاحظة أن أسماء الله عندهم كالأسماء الجامدة التي لا تدل على المعاني, ومن غلاتهم من ينفى الصفات والأسماء معاً ولا يثبتون إلا ذاتاً مجردة من الأسماء والصفات, حتى أصبح وجود الله عندهم وجوداً ذهنياً فقط، ولا يتصور وجوده في الخارج.
هذا ما نتج من ذلك التصرف والتلاعب بالنصوص, بل عزلها عن وظائفها كما قلنا سابقاً, وفي النهاية استولت عليهم الحيرة واستوحشوا مع أنفسهم بعد أن فقدوا الأنس بالله، وبهما تستر القوم بما أبدوا من تعظيم مبحث العقيدة بتلكم العبارات المعسولة التي سبق ذكرها, والتي لا تنطلي إلا على من يجهل القوم على صورتهم الحقيقية، فقد انجلى لكم دارس فاهم ما انتهى إليه أمرهم فاسمعوا معي ما قال بعض فطاحلتهم متندمين في آخر جولاتهم في علم الكلام والفلسفة, ولعل الله ختم لهم بالتوبة النصوح وحسن الخاتمة.
يقول الرازي متندماً وواصفاً لحياة علماء الكلام:
نهـاية أقـدام العقـول عقـال * وغـاية سعي العـالمين ضـلال
وأرواحنا في وحشة من جسـومنا * وحاصـل دنيـانا أذى ووبـال
ولم نستفد من بحثنا طول عمـرنا * سوى أن جمعـنا فيه: قيل وقالوا
إلى أن قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمفاهيم الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} [فاطر: 10]. واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110]. ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
ويقول الشهرستاني هو الآخر: إنه لم يجن منه الفلاسفة والمتكلمون إلا الحيرة والندم حيث يقول:
لعمري لقـد طفت المعـاهد كلـها * وسيرت طـرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضـعاً كـف حـائـر * على ذقن أو قـارعاً سن نـادم
وثالثهم أبو المعالي الجويني يقول: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام, فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به.
وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم, وخليت أهل الإسلام وعلومهم, ودخلت في الذي نهوني عنه, والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني, وهأناذا أموت على عقيدة أمي. أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور -يعنى الفطرة-.
ويحكى عن بعض تلامذة فخر الدين الرازي واسمه شمس الدين الخسروشاهي, يحكى عنه أنه قال لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً: ما تعتقد؟
قال: ما يعتقده المسلمون.
فقال الخسروشاهي: وأنت منشرح الصدر لذلك ومستيقن به؟
فقال: نعم.
فقال: اشكر الله على هذه النعمة، ولكني والله ما أدري ما أعتقد, والله ما أدري ما أعتقد, والله ما أدري ما أعتقد -ثلاث مرات- وبكى حتى اخضلت لحيته.
ثم لنسمع الأبيات الآتية: لابن أبي الحديد الفاضل المعروف بالعراقي, وهو يذم علم الفلسفة ويرى أن تسميتهم إياها بالنظر غير صحيحة, فلنسمع نص كلامه:
فيـك يـا أغلـوطة الـفـكر * حـار أمري وانقـضى عمري
سـافرت فيـك العقـول فـما * ربحـت إلا أذى الســفـر
فلا حـيا الله الأولى زعـمـوا * أنـك المعـروف بالنـظــر
كـذبـوا أن الـذي ذكـروا * خـارج عـن قـوة البـشـر
ونختتم هذه النقول بحكايتين قصيرتين ولكنهما خطيرتان:
إحداهما: يروى عن بعضهم -وهو الخوفجي- أنه قال عند موته: "ما عرفت مما حصلت شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجع" ثم قال: "الافتقار وصف سلبي أموت وما عرفت شيئاً" هكذا نتركها دون تعليق لننقل لكم الحكاية الثانية والأخيرة، وقد تحاشى الرواة ذكر اسم هذا الأخير لأمر ما وهو يقول: "أضطجع على فراشي واضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء".
ويقول شارح الطحاوية وهو يعلق على أصحاب هذه النقول بصفة عامة والأخيرتين بصفة خاصة: يقول: "ومن وصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق".
ومسك الختام لهذه النقول: كلام لإمام من أئمة الهدى, الإمام الشافعي عرف القوم وعرف فيهم ما لا يظن وجوده عندهم, فلنسمع ماذا يقول الإمام: "لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله, خير له من أن يبتلى بالكلام".
وبعد: لعلي لست بحاجة إلى التعليق على هذه النقول المختلفة، بعد أن أعلن علماء الكلام أنفسهم ممثلين في أئمتهم الذين يحتجون بكلامهم بأنهم ليسوا على شيء, وأنهم قضوا أعمارهم فيما لا طائل تحته, بل في كلام بعيد عن علوم المسلمين, ثم توج إعلانهم ذلك كلام الإمام الشافعي الذي سمعناه, ولكن الذي يهمنا في هذا المقام: أن ندرك أن تلك المحاولة الجهمية التي قام بها علماء الكلام, والتي سبق أن تحدثنا عنها والتي قدمت للمسلمين السذج بأسلوب خداع أظهر تعظيم شأن العقيدة, أن تلك المحاولة هي التي نجحت وللأسف وأنتجت هذا الموقف الخطير على عقيدة المسلمين. اهـ.