بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وأشهد أن لاإله إلا الله وأن محمد رسول الله،
وبعد،
فقد كتب الدكتور صالح المغامسي مقالا في جريدة "الشرق الأوسط" العلمانية الصادرة يوم الثلاثـاء 30 ذو القعـدة 1433 هـ 16 اكتوبر 2012 العدد 12376، تحت عنوان: ((فكيف المخدوم؟))، فرد عليه الشيخ عبد المحسن العباد - جزاه الله خيرا - في المقال الآتي:
يُجمع بين الفقه والزهد والورع ويُبتعد عن التصوف لفظاً ومعنى
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد؛ فقد اطلعت على مقال لأحد المشايخ بعنوان: ((فكيف المخدوم؟)) نشر في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 30/11/1433هـ، جاء في آخره: ((يقل عند قوم في خطابهم روح العاطفة، وإشارات التصوف المحمود، ويعظم عند آخرين فتح باب التصوف بلا مواربة حمده وذامه من غير مسكة عقل أو معين علم، وكل أخطأ الطريق، والآخر شر من الأول، ومن القول المأثور الحسن: ((من تصوف بلا فقه فقد تزندق، ومن تفقه بلا تصوف فقد تفسق، ومن تفقه وتصوف فقد تحقق))، وقطعا المراد بالتصوف هنا روح العاطفة ورقة القلب ونبذ الجفاء، وعظيم التفكر وفقه الإشارات القرآنية والدلالات النبوية، وتأمل قول الله تعالى عن أهل جنته: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} ، فالغلمان الخدام المختصون بأهل الجنة، واللؤلؤ المكنون المستور في الصدف، وذلك أنه أصفى وأرطب وأثمن، فاجمع أيها المبارك بين الفقه والتصوف وقل: هذا هو الخادم فكيف المخدوم؟ أرأيت ترغيبا فيما عند الله أعظم من هذا البيان، كلا فقد قال الله:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} )).
وأنبه على هذا الكلام بهذه التنبيهات:
1- ما ذكره من أن من معاني التصوف فقه الإشارات القرآنية والدلالات النبوية، ومثل لذلك بقوله: ((وتأمل قول الله تعالى عن أهل جنته: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}، فالغلمان الخدام المختصون بأهل الجنة، واللؤلؤ المكنون المستور في الصدف، وذلك أنه أصفى وأرطب وأثمن، فاجمع أيها المبارك بين الفقه والتصوف وقل: هذا هو الخادم فكيف المخدوم؟ أرأيت ترغيبا فيما عند الله أعظم من هذا البيان، كلا فقد قال الله:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ})).
أقول: إن صفات وأحوال المخدومين في الجنة جاءت موضحة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} ، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} ، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}، ومن تمام تنعمهم وإكرامهم ما حباهم به من الولدان القائمين بخدمتهم، فإن في التصريح بصفاتهم وما أكرموا به ما يغني عن هذا الاستنباط الواضح، الذي ظن خفاءه، وقال عنه: «إنه من فقه الإشارات القرآنية»، ومن أجل ذلك أشاد بالتصوف وحث عليه في قوله: ((فاجمع أيها المبارك بين الفقه والتصوف وقل: هذا هو الخادم فكيف المخدوم؟))، وفي تفسير ابن جرير لآية الطور أثر عن قتادة، قال: ((بلغني أنه قيل: يا رسول الله، هذا الخادم مثل اللؤلؤ؛ فكيف المخدوم؟ قال: والذي نفسي بيده، إن فضل ما بينهما كفضل القمر ليلة البدر على النجوم))، وهذا الأثر لا يصح لما فيه من إبهام وانقطاع، وقد أورد ابن القيم رحمه الله في كتابه: ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) الكثير من نصوص الكتاب والسنة في صفات أهل الجنة وأحوالهم وما أعد لهم من النعيم وأنواع الإكرام.
2- أما حثه على الجمع بين الفقه والتصوف في قوله: ((فاجمع أيها المبارك بين الفقه والتصوف وقل: هذا هو الخادم فكيف المخدوم؟)).
فأقول: إن مما لا يخفى أن التفقه في الدين من علامة إرادة الله الخير بالعبد، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)) رواه البخاري (71) ومسلم (2389)، والفقه في الدين يكون بالاستنباط من الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وفقاً لما كان عليه فهم سلف هذه الأمة، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية من فرق هذه الأمة الثلاث والسبعين، أجاب بقوله: ((ما أنا عليه وأصحابي)) وهو حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرتُ تخريجه في رسالة: ((الانتصار لأهل السنة والحديث في رد أباطيل حسن المالكي)) المطبوعة ضمن مجموع كتبي ورسائلي (7/275)، ولم يأت في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة فيما أعلم ذكر التصوف، والغالب في استعماله فيما بعد في المعنى المذموم الذي يدخل في السبل المخالفة للصراط المستقيم، كما قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقد يأتي ذكره يراد به الزهد والورع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/28): ((والزهد المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع، بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع، وكذلك أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد))، والتعبير بالواضحات أولى وأولى من التعبير بالمحتملات والمشتبهات، كما قال الله عز وجل: {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا }، وقال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) رواه الترمذي (2518) وقال: ((هذا حديث صحيح))، قال حسان بن أبي سنان: ((ما رأيت شيئاً أهون من الورع، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) ذكره البخاري عنه تعليقاً في: ((باب تفسير المشبهات)) من صحيحه قبل الحديث رقم: (2052)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) رواه البخاري (52) ومسلم (4094)، وكيف يأمن من يحث على التصوف أن يأخذ بعض الناس بسببه بالمعنى الباطل للتصوف فيلحقه مثل آثامهم؟! ومن المعلوم أنه قد اشتهر بالفقه والزهد والورع كثير من العلماء قديماً وحديثاً، ولم يوصفوا ولا ينبغي أن يوصفوا بهذا الوصف الذي يغلب عليه المعنى الباطل، ومن هؤلاء الذين جمعوا بين الفقه في الدين أصولاً وفروعاً والزهد والورع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وشيخ الإسلام في زمانه شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين رحم الله الجميع، فإن من يطلع على ما جمع من تفسيرهم لبعض آيات القرآن يتبين له بوضوح ما عندهم من دقة في فهم القرآن واستنباط لعبره وعظاته؛ وكذا شيخنا الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه: ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن))، ومثلهم الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره للقرآن الكريم، ومن أمثلة دقته رحمه الله في الفهم والاستنباط ما ذكره في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }، حيث قال: ((ودلّ تقييد التطوع بالخير أن من تطوع بالبدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله أنه لا يحصل له إلا العناء وليس بخير له، بل قد يكون شراً له إن كان متعمداً عالماً بعدم مشروعية العمل))، ولا شك أن السير على ما كان عليه أهل الفقه في الدين والتحقيق في مسائل العلم خير من تكلف استنباطات من القرآن لا تتفق مع ما كان عليه السلف، وقد نبهت على بعض ما ظهر من صاحب المقال من قبل في كلمة بعنوان: ((ليس من الدعاء: سيؤتينا الله من فضله إنا إلى الله راغبون)) نشرت بتاريخ 4/1/1433هـ، وكلمة بعنوان: ((الدعاء بالألفاظ الشرعية لا بالتجارب الشخصية)) نشرت بتاريخ 30/6/1433هـ.
3- أما قوله: ((ومن القول المأثور الحسن: ((من تصوف بلا فقه فقد تزندق، ومن تفقه بلا تصوف فقد تفسق، ومن تفقه وتصوف فقد تحقق))، وقطعا المراد بالتصوف هنا روح العاطفة ورقة القلب ونبذ الجفاء، وعظيم التفكر وفقه الإشارات القرآنية والدلالات النبوية))، فأشير حوله إلى ما يلي:
أ. لم أقف على نسبة هذا الأثر الذي وصفه بأنه حسن إلى أحد من السلف بإسناد، بل نسبه بعض المتأخرين بغير إسناد إلى الإمام مالك رحمه الله، ونسبته إليه تبعد صحتها وهو الذي قال: ((من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم) ، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً)) (الاعتصام للشاطبي 1/28)، وأيضاً يبعد أن يكون من كلامه لما فيه من سجع متكلف شبيه بسجع الكهان، لاسيما التعبير بكلمتي: ((تفسّق)) و((تحقَّق)).
ب. ذكر هذا الشيخ أن المراد بالتصوف في هذا الأثر التصوف المحمود، وكيف يكون من تصوف بلا فقه متزندقاً مع أن عوام المسلمين فيهم من يتصف بالورع والزهد ويفقهون أمور عباداتهم التي تتعين عليهم معرفتها وإن لم يحصل لهم الفقه الكفائي ولا يجوز أن يوصفوا بهذا الوصف المذموم؟!
وأما في العقيدة فهم على الفطرة وهم خير من المتعلمين الذين انحرفوا عن الفطرة بسبب تعلمهم، وقد سأل رجل عمر بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء فقال: ((الزم دين الصبي في الكُتّاب والأعرابي والْهُ عمّا سوى ذلك)). (رواه ابن سعد في الطبقات: 5/374، وصحّح إسناده النووي في تهذيب الأسماء واللغات، قسم الأسماء: 2/22)، ((وكان الرازي مع تبحره في العلوم يقول: من التزم دين العجائز فهو الفائز)). (لسان الميزان لابن حجر:4/427).
وأسأل الله عز وجل أن يوفقني وصاحب المقال وسائر طلبة العلم وعموم المسلمين للفقه في الدين والثبات على الحق وأن يري الجميع الحق حقاً ويوفق لاتباعه، وأن يريهم الباطل باطلاً ويوفق لاجتنابه، وأن يعيذنا جميعاً من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
12/02/1434هـ،
عبد المحسن بن حمد العباد البدر.