لقد تنوعت مناهج العلماء في تفسير كتاب الله الكريم ما بين مطوَّلٍ ومختصر، ومفسِّرٍ بالرأي وآخر بالأثر، ومن هذه المناهج تفسير آيات الأحكام، وهو منهج يجمع بين علمي التفسير والفقه، حيث يذكر المفسّر الآية ثم يذكر الأحكام الفقهيّة المشتملة عليها، وأقوال أئمة المذاهب فيها.
وممن اشتُهر بهذا المنهج من التفاسير تفسير العالم النحرير، والعلَم الشهير أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي رحمه الله المسمّى بـ ( الجامع لأحكام القرآن والمبيِّن لما تضمَّنه من السنة وآي الفرقان )، فهو فريد في بابهلا يستغني عنه العالم فضلا عن طالب العلم.
وقد توجّه إليّ طلب كريم من شيخنا الأستاذ الدكتور حسن أبو غدة بدراسة منهج هذا الإمام في تفسير آيات الأحكام، فاستعنت بالله على الكتابة في هذا الموضوع، وقد قسّمتُ هذا البحث إلى مبحثين على النحو التالي:
- المبحث الأول: نبذة عن المؤلِّف والمؤلَّف، وفيه مطلبان:
- المطلب الأول: نبذة عن حياة المؤلِّف.
- المطلب الثاني: نبذة عن الكتاب.
- المبحث الثاني: منهج المؤلّف في تفسير آيات الأحكام مع أمثلةٍ تطبيقيّة على ذلك.
ثم ختمت البحت بخاتمة ذكرتُ فيها أهم النتائج، والله تعالى أسأل أن يجعله بحثاً مباركاً مسدداً، وأن ينفع به كاتبه وقارئه، إنه سميع قريب وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
- المبحث الأول: نبذة عن المؤلِّف والمؤلَّف.
- المطلب الأول: نبذة عن حياة المؤلِّف.
اسمه ونشأته: هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري القرطبي، ولم تذكر كتب التاريخ سنة ولادته؛ لكنه من أهل قرطبة، وقد رجّح الدكتور مفتاح السنوسي أن ولادة القرطبي في أواخر القرن السادس، أو مستهل القرن السابع، ثم رحل إلى صعيد مصر واستقرّ بمنية أبي خُصَيب واستقرّ فيها إلى أن توفي في شوال سنة 671 هـ .
مكانته العلميّة: كان – رحمه الله – من العلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، أوقاته معمورة ما بين عبادةٍ وتصنيف، وله تصانيف تدل على إمامته وكثرة اطلاعه وفضله، فمن تصانيفه كتابه (( الجامع لأحكام القرآن )) وهو من أجلّ التفاسير وأعظمها نفعاً، وكتابـه (( الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ))، وكتابه (( التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ))، وكتابه (( قمع الحرص بالزهد والقناعة )) وغير ذلك من الكتب، وله أرجوزة جمع فيها أسماء النبي ، وكان طارح التكلّف، يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقيّة، وقد سمع من الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي صاحب (( المُفهِم في شرح مسلم )) بعض هذا الشرح، وحدّث عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي اليحصبي، وعن الحافظ أبي علي الحسن بن محمد البكري وغيرهما.
- المطلب الثاني: نبذة عن الكتاب.
يُعتبر تفسير القرطبي (( الجامع لأحكام القرآن )) أشهر كتبه وأعظمها نفعاً كما تقدّم، وقد أوضح القرطبي سبب تأليفه بقوله : ((فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقلبالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ فيه مُنّتي
كما بيّن طريقة تأليفه بقوله: ((..بأن أكتب تعليقاً وجيزاً، يتضمن نكتاً من التفسير واللغات، والإعراب والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعاً بين معانيهما، ومبيناً ما أشكل منهما، بأقاويل السلف، ومن تبعهم من الخلف ))، وبهذا يتبيّن أن تفسير القرطبي يعتبر من التفسير بالمأثور الذي يفسر القرآن بالقرآن أو بالآثار الواردة عن النبي r أو عن السلف رحمهم الله.
وقد بيّن رحمه الله شرطه ومنهجه في تفسيره أوضح بيان، ولعلّي أُجمله في النقاط التالية:
1) إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله.
2) الإضراب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين إلا ما لا بد منه، وما لا غنى عنه للتبيين.
3) تبيين آيات الأحكام، بمسائل تُسفر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها.
4) إن لم تتضمن الآية حكماً ذكر ما فيها من التفسير والتأويل.
5) ذكر أسباب النزول، والقراءات، والإعراب، وبيان الغريب من الألفاظ، مع الاستشهاد بأشعار العرب.
والذي يقرأ تفسير القرطبي يجد أنه قد التزم بما شرطه، وخطه من منهج في الغالب، فهو يعرِض لأسباب النزول، والغريب من الألفاظ، ويحتكم إلى اللغة كثيراً، ويرد على الفِرق كالمعتزلة، والقدريّة، والروافض، والفلاسفة، كما كان ينقل عن كثير ممن تقدمه في التفسير ،خصوصاً من ألّف منهم في كتب الأحكام كابن جرير الطبري، وابن عطية، وابن العربي، وأبو بكر الجصاص.
- المبحث الثاني: منهج القرطبي في تفسير آيات الأحكام.
سأُركّز في هذا المبحث على منهج القرطبي رحمه الله في تفسيره لآيات الأحكام خاصة، وذلك استقراءً من بعض المواضع من تفسيره، والتي تتعلّق بالأحكام الفقهيّة، وهذه الآيات هي:
1) آيات الصيام 183 – 186 من سورة البقرة.
2) آية الإحصار في الحج 196 من سورة البقرة.
3) آيات القتل 92 – 94 من سورة النساء.
4) آية الوضوء 6 من سورة المائدة.
5) آية الغنائم 41 من سورة الأنفال.
وقد اتّضح لي من خلال تأمل تفسير الآيات المتقدّمة أن منهجه فيها ما يلي:
1) تقسيم الآية إلى مسائل.
وهذا واضح شهير في تفسيره – رحمه الله – وقد نص عليه في مقدّمة كتابه كما تقدّم، فيُقسّم الآية إلى عدة مسائل بحسب الأحكام التي تتضمنها، كقوله في آية القتل: ((فيه عشرون مسألة)) وقوله في آية الغنائم: ((فيه ست وعشرون مسألة)).
ومما يلاحظ على هذه المسائل أنها ليست كلّها في ذكر المسائل والأحكام الفقهيّة بل قد تشتمل على بيان بعض الفضائل كقوله في المسألة الثانية من آيات الصيام: ((الثانية: فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم ...)) أو تشتمل على تفسير لا علاقة له بالمسائل الفقهية كقوله في آخر مسألة في آية الوضوء: (( الثانية والثلاثون: قوله تعالى: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيكُمْ مِن حَرَجٍ ) أي من ضيق في الدين ...)) بل ربما أحياناً يذكر في بعض المسائل أموراً تتعلّق بالعقيدة، فيقرر مذهب أهل السنة والجماعة، ويرد على أهل التعطيل والفلاسفة وغيرهم.
2) مراعاة الدليل وعدم التعصب للمذهب.
وهذا الأمر مما يميز الإمام القرطبي - رحمه الله – ولعلّ هذا – والله أعلم - مما زاد من قيمة هذا التفسير المبارك، فيُلاحَظ عند ذكره لمسائل الخلاف بين الأئمة لا يتعصب لمذهبه المالكي بل يتجرد مع الدليل حتى يصل إلى ما يراه أنه الحق، وهذا كثير واضح في تفسيره.
ومن أمثلته ما ذكره في آيات الصيام عند قوله تعالى ( ولِتُكْمِلوا العِدَّةَ..) في المسألة السابعة عشرة في حكم صلاة عيد الفطر في اليوم الثاني، مع نقله عن ابن عبد البر أنه لا خلاف عنمالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال، وحجتهمفي ذلك أن صلاةالعيد لو قضيت بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى، فهذه مثلها.
لكنه قال: (( قلت: والقول بالخروج إن شاء الله أصح، للسنة الثابتة في ذلك، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (من لم يصلِّ ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس)
ومن أمثلة ذلك أيضاً مسألة تقديم الحلق على الذبح في يوم النحر، فقد وضّح أن ظاهر المذهب المنع من تقديم الحلق على الذبح إن كان عامداً قاصداً، ثم قال: والصحيح الجواز، لحديث ابن عباس أن النبي قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: (لا حرج).
ومن الأمثلة مخالفته لمذهب الإمام مالك في تقسيم القتل إلى عمْدٍ وخطأ في آية القتل حيث ذكر رأي الجمهور في التقسيم إلى عمد، وشِبه عمد، وخطأ. قال: ((قلت: وهو الصحيح، فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أُهُبِها، فلا تستباح إلا بأمر بين لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال، لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد ))
وكذلك من الأمثلة ترجيحه أن النبي حج قارناً لما في صحيح مسلم عن بكر عن أنس قال: (سمعت النبي يُلبِّي بالحج والعمرة معا)، مع أن مذهب الإمام مالك أن رسول الله حج مفرِداً، والإفراد أفضل.
فمما تقدّم يتضّح وبجلاء أن القرطبي – رحمه الله – يدور مع الدليل حيث دار فإذا كان الدليل يؤيّد غير ما رجّحه الإمام مالك أخذ به، وهذا من سعة الأفق، ولا غرابة في ذلك فإن القرطبي لم يتعصّب للمذهب حتى في طلبه للعلم، فقد تلقّى العلم عن بعض مشايخ الشافعيّة كما ذكر في المسألة السادسة في آية الغنائم في أن السلب لا يُعطى للقاتل إلا أن يقيم البيّنة على قتله، قال: قلت: سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبد العظيم يقول: إنما أعطاه النبي - أي أبا قتادة - السلب بشهادة الأسود بن خزاعي وعبد الله بن أنيس.