قال الإمامُ ابنُ القيّم رحمه الله:
«ولَمّا كانَ جِهادُ أعْداءِ اللَّهِ فِي الخارِجِ فَرْعًا عَلى جِهادِ العَبْدِ نَفْسَهُ فِي ذاتِ اللَّهِ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «المُجاهِدُ مَن جاهَدَ نَفْسَهُ فِي طاعَةِ اللَّهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ» كانَ جِهادُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلى جِهادِ العَدُوِّ فِي الخارِجِ، وأصْلًا لَهُ، فَإنَّهُ ما لَمْ يُجاهِدْ نَفْسَهُ أوَّلًا لِتَفْعَلَ ما أُمِرَتْ بِهِ وتَتْرُكَ ما نُهِيَتْ عَنْهُ ويُحارِبُها فِي اللَّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهادُ عَدُوِّهِ فِي الخارِجِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهادُ عَدُوِّهِ والِانْتِصافُ مِنهُ وعَدُوُّهُ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قاهِرٌ لَهُ مُتَسَلِّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجاهِدْهُ ولَمْ يُحارِبْهُ فِي اللَّهِ، بَلْ لا يُمْكِنُهُ الخُرُوجُ إلى عَدُوِّهِ حَتّى يُجاهِدَ نَفْسَهُ عَلى الخُرُوجِ.
فَهَذانِ عَدُوّانِ قَدِ امْتُحِنَ العَبْدُ بِجِهادِهِما، وبَيْنَهُما عَدُوٌّ ثالِثٌ لا يُمْكِنُهُ جِهادُهُما إلّا بِجِهادِهِ، وهُوَ واقِفٌ بَيْنَهُما يُثَبِّطُ العَبْدَ عَنْ جِهادِهِما، ويُخَذِّلُهُ ويُرْجِفُ بِهِ، ولا يَزالُ يُخَيِّلُ لَهُ ما فِي جِهادِهِما مِنَ المَشاقِّ وتَرْكِ الحُظُوظِ وفَوْتِ اللَّذّاتِ والمُشْتَهَياتِ، ولا يُمْكِنُهُ أنْ يُجاهِدَ ذَيْنِكَ العَدُوَّيْنِ إلّا بِجِهادِهِ، فَكانَ جِهادُهُ هُوَ الأصْلَ لِجِهادِهِما، وهُوَ الشَّيْطانُ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر 6]، والأمْرُ بِاِتِّخاذِهِ عَدُوًّا تَنْبِيهٌ عَلى اسْتِفْراغِ الوُسْعِ فِي مُحارَبَتِهِ، ومُجاهَدَتِهِ، كَأنَّهُ عَدُوٌّ لا يَفْتُرُ ولا يُقَصِّرُ عَنْ مُحارَبَةِ العَبْدِ عَلى عَدَدِ الأنْفاسِ.
فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أعْداءٍ، أُمِرَ العَبْدُ بِمُحارَبَتِها وجِهادِها...».
[زاد المعاد (5/3)]