أهميَّة الرَّدِّ على المخالفِ وبيانُ جملةٍ من ثمارهِ الحلقة الأخيرة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمِّدٍ وآله وصحبه وسلَّم، وبعدُ:
فهذه هي الحلقة السَّادسة والأخيرة مِنْ كتابتي في قَضِيَّة (أهميَّة الرَّدِّ على المخالِف، وبيان جملةٍ من ثمارهِ)، وهي تَتمَّة لسابقتهَا الخامسة فِي (بيان جملة من ثمار الرَّدِّ على المخالف)، فَأقولُ مستعيناً بالله العلي الأعلى:
الفائدة الخامسة: مَحْقُّ البَاطلِ وَتَعْرِيَتُهُ، مَعَ كَسْرِ الْمُبْطِلِ الْمُعَانِدِ للحقِّ وَتَعْرِيته، لِيَكْتَفِ النَّاس شَرَّه وَأَذَاهُ، وَلاَ يَغْترّ بهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ.
إنَّ تَطبيقَ وتَحقيقَ هَذه الفَائدة مِنَ الْمَطَالِب وَ الْمَقَاصد الشَّرعية، قال الله تعالى (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (الأنفال:7-8).
قال العلاَّمة القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن)(7/369-370) عند تفسير هذه الآية:".. (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) أي؛ أنْ يُظْهِرَ الإسْلاَمَ، والْحَقُّ حَقٌّ أبداً، ولكنَّ إِظْهَارهُ: تَحْقيقٌ لَهُ، مِنْ حَيثُ إنَّه إذَا لَمْ يظْهر أشْبَه البَاطِلَ، (بِكَلِمَاتهِ) أيْ؛ بِوَعْدهِ، فإنَّهُ وَعَدَ نَبيَّه ذَلكَ فِي سُورة الدخان... (وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) أي؛ يَسْتَأصلهم بالهلاك. ( لِيُحِقَّ الْحَقَّ) أي؛ يُظْهِرَ دِيْنَ الإسْلاَمِ وَ يُعزّهُ. (وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) أي؛ الكُفر، وإبْطَالُهُ إعْدَامُهُ، كما أنَّ إحقاق الْحَقِّ: إظْهَارهُ، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ )، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)".
أ/ قَالَ الإمامُ الدَّارميُّ في (الرَّدِّ على الجهميَّة)(ص 18-19):" فحين رأينا ذلك منهم، وفطنَّا لمذهبهم، وما يقصدونَ إليه من الكُفر وإبطالِ الكتبِ والرَّسل، ونفي الكلام والعِلْم والأمر عَن الله تعالى، رأينا أنْ نُبيِّن مِنْ مَذَاهبهم رُسُوماً منَ الكتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلاَم العُلماء، مَا يَسْتَدِلُّ به أهل الغَفْلة منَ النَّاسِ عَلى سُوءِ مَذهبهم، فيَحذروهم عَلى أنفسهم وَعَلى أولادهم وأهليهم، ويَجتهدوا فِي الرَّدِّ عليهم، مُحتسبين مُنَافحين عن دين الله تعالى، طالبين به ما عند الله.
وقد كان مَن مضى من السَّلف يكرهون الخوض في هذا وما أشبهه، وقد كانوا رُزقوا العافية منهم، وابتلينا بهم عند دروس الإسلام، وذهاب العلماء، فلم نجد بُدَّاً من أن نرد ما أتوا به من الباطل بالحقِّ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ما أشبه هذا على أمته، ويحذرهم إياهم، ثم الصحابة بعده والتابعون..."، وينظر فيه أيضاً (ص 154).
ب/ قال الإمام الآجريُّ في كتابه (أخلاق العلماء)(ص 56- ط الافتاء): " اعلموا رحمكم الله، ووفقنا وإيَّاكم للرَّشاد أنَّ مِنْ صِفَةِ العَالِم العَاقلِ الَّذي فَقَّهه الله في الدِّين ونَفعه بالعلمِ؛ أن لاَ يُجَادل و لا يُماري ولا يُغالب بالعلمِ إلاَّ مَنْ يَستحقّ أنْ يغلبه بالعلمِ الشَّافي، وذلك يحتاج فِي وقتٍ مِنَ الأوقَات إلى مُنَاظرةِ أحد منَ أهل الزَّيغ ليدفع بحقه باطل منْ خالف الحقَّ وخرج عن جماعة المسلمين، فتكون غلبته لأهل الزيغ تعود بركة على المسلمين على جهة الاضطرار إلى المناظرة لا على الاختيار..".
ج/ قال الإمام البربهاري في (شرح السنة)(9/62):" اعلمْ أنَّ الْخُروجَ مِنَ الطَّريق علَى وَجهين:
أمَّا أحدهما....وآخر: عَاندَ الْحقَّ وخالفَ مَنْ كَانَ قَبله من المتَّقين؛ فَهو ضَالٌ مُضِلٌّ، شَيطانٌ مريدٌ في هذه الأمة، حقيقٌ على منْ يعرفه أنْ يُحذّر النَّاس منه، ويبين للناس قصَّته، لئلا يقعَ أحدٌ في بدعته؛ فيهلك".
د/ قال الإمامُ ابن بطة العكبري في (الإبانة الكبرى)(2/543) :"... وثالثٌ مشئوم قد زاغَ قلبه ، وزلَّت عنْ سَبيل الرَّشاد قَدمه ، فَعشيت بصيرته ، واسْتَحكمت للبدعةِ نُصرته ، يجهده أنْ يُشكِّك فِي اليقينِ، ويفسد عليك صحيح الدين؛ فجميع الذين رويناه ، وكل ما حكيناه في هذا الباب لأجله وبسببه ، فإنَّك لن تأتي في باب حصر منه و وجيع مكيدته أبلغ من الإمساك عن جوابه، والإعراض عن خطأ به، لأن غرضه من مناظرتك أن يفتنك فتتبعه، فيملك وييأس منك فيشفي غيظه أن يسمعك في دينك ما تكرهه ، فأخسئه بالإمساك عنه، وأذله بالقطيعة له أليس قد أخبرتك بقول الحسن رحمه الله حين قال له القائل : يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين ، فقال له الحسن : أما أنا فقد أبصرت ديني ، فإن كنت قد أضللت دينك ، فالتمسه . وأخبرتك بقول مالك حين جاءه بعض أهل الأهواء ، فقال له : أما أنا فعلى بينة من ربي ، وأما أنت فشاك ، فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه . فهل يأتي في جواب المخالف من جميع الحجج حجة هي أسخن لعينه ، ولا أغيظ لقلبه من مثل هذه الحجة ؟
والجواب : أما سمعت قول مصعب بن سعد : لا تجالس مفتوناً ، فإنه لن يُخطئك إحدى اثنتين : إما أن يفتنك فتتبعه ، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه. وأيوب السختياني حين قال له الرجل : أكلمك بكلمة ، فولَّى عنه ، وأشار بإصبعه : ولا نصف كلمة ، وعبد الرزاق حين قال لابن أبي يحيى : القلب ضعيف ، وليس الدين لمن غلب".
هـ/ قال الإمامُ ابنُ عبدالبر في (جامع بيان العلم وفضله)(2/938) بعد إيراده كلام بعض الأئمة في النَّهي عن مناظرة أهل البدع، قالَ:" إلاَّ أنْ يَضطر أحدٌ إلى الكلام فلا يسعه السُّكوت إذا طمع بردِّ الباطلِ، وصرفِ صاحبه عن مذهبه، أو خشي ضلال عامَّة أو نحو هذا".
و/ قال الإمامُ شيخ الإسلام كما في (مجموع الفتاوى)(2/357-358) في معرض تعليله كثرة ردوده على الجهمية وغلاة المتصوفة:" ولولاَ أنَّ أصحابَ هَذا القول كثروا وظهروا وانْتشروا، وهم عنَد كثيرٍ من النَّاس سادات الأنام ومشايخ الإسلام، وأهل التَّوحيد والتحقيق، وأفضل أهل الطريق، حتى فضَّلوهم على الأنبياء والمرسلين وأكابر مشايخ الدين لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال وإيضاح هذا الضلال..".
ز/ قال الإمام ابن القيم في (الصَّواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)(4/1276):" قال تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )- (النحل: من الآية125)- فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو، فإنه إمَّا أن يكون:
طالباً للحق راغباً فيه محباً له، مؤثراً له على غيره إذا عرفه؛ فهذا يُدعى بالحكمة، ولا يحتاجُ إلى موعظة ولا جدال.
وإما أنْ يكونَ معرضاً مشتغلاً بضدِّ الحقِّ، ولكن لو عرفهُ عرَفه وآثرهُ واتَّبعه؛ فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب.
وإما أن يكون معانداً معارضاً؛ فهذا يُجادلُ بالتي هي أحسنُ، فإن رجعَ إلى الحقِّ و إلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد، إن أمكن فلمناظرة المبطل فائدتان:
أحدهما: أنْ يرد عن باطله ويرجع إلى الحق.
الثانية: أن ينكف شره وعداوته، ويتبين للنَّاس أن الذي معه باطلٌ.
وهذه الوجوه كلُّها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف، فإنه كفيلٌ بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره، ورزق فهماً فيه..".
ح/ قال الحافظ ابنُ عبدالهادي في كتابه (الصارم المنكي في الرَّدِّ على السبكي)(ص 13-16) في قدمة الكتاب:" أما بعد: فإني وقفتُ على الكتاب الذي ألَّفه بعض قضاة الشافعية في الرَّدِّ على شيخ الإسلام تقي الدين أبوالعباس أحمد بن تيمية في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور...فوجدت الكتاب مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة،وتقوية الآثار الواهية و المكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة،وتحريفها عن مواضعها، وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة، ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة،صائراً في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة والحجج الداحضة، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها.
وهو في الجملة لونٌ عجيبٌ وبناء غريب....فلما وقفتُ على هذا الكتاب المذكور أحببتُ أن أنبه على بعض ما وقع فيه من الأمور المنكرة والأشياء المردودة، وخلط الحقِّ بالباطل لئلا يغترَّ بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما وقع فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتَّشنيع والتَّلبيس لطال الخطاب،و لبلغ الجواب مجلدات ولكن التَّنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم، والله المستعان".
الفائدة السَّادسة: تَثبيتُ الْمُؤْمنينَ عَلَى مَا هُمْ عَليهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى.
و تَتحقَّقُ هذه في إظهار صِحَّة وقوَّة الحقِّ وصدق أدلته، وكشفِ زيغ أهل الباطل وكسر شبههم؛ لأنَّهم قد يُزخرفون باطلهم ويروِّجونه على خلافِ ما هو عليه فتنحرف أفهام منْ لا بصيرة له بحقيقة الأمر، ويقع في شِرَاكهم، نعوذ بالله من الخذلان، قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33)، وقال تعالى (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (الاسراء:74) قال الحافظُ ابن كثير في (تفسيره)(3/56):" يخبر تعالى عن تأييده رسوله، صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه، في مشارق الأرض ومغاربها، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين".
وقال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي في (تفسيره)(ص 76):"... وفي هذه الآيات، دليلٌ على شدة افتقار العبد إلى تثبيت الله إياه، وأنه ينبغي له أن لا يزال متملقًا لربه، أن يثبته على الإيمان، ساعياً في كل سبب موصل إلى ذلك لأن النَّبي صلى الله عليه وسلَّم وهو أكمل الخلق، قال الله له ( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) فكيف بغيره؟.
وفيها تذكير الله لرسوله منته عليه، وعصمته من الشر، فدل ذلك على أن الله يحب من عباده أنْ يتفطنوا لإنعامه عليهم- عند وجود أسباب الشر- بالعصمة منه، والثبات على الإيمان".
أ/ قالَ الإمامُ عثمان بن سعيد الدارمي في (الرَّد على الجهمية)(ص18/ رقم 15):"..فحينَ رأينا ذلكَ منهم، وفطنَّا لمذهبهم، وما يَقصدونَ إليه من الكُفر وإبطالِ الكتُب والرُّسل، ونفي الكَلام والعِلْم والأمر عن الله تعالى، رأينا أنْ نُبيِّن من مذاهبهم رسوماً من الكتاب والسُّنَّة وَ كلام العُلماءِ، ما يَسْتدل به أهل الغفلةِ منَ النَّاسِ على سوءِ مذْهَبهم، فيحذروهم على أنفسهم وعلى أولادهم وأهليهم، ويجتهدونَ في الرَّدِّ عليهم، محتسبين منافحين عن دين الله تعالى، طالبين به ما عند الله".
ب/ قال العلامة ابنُ قدامة في (تحريم النظر في كتب الكلام) (ص 35):" وما عادتي ذكر معائب أصحابنا، وإنني لأحبُّ ستر عوراتهم، ولكن وجب بيان حال هذه الرجل حين اغترَّ بمقالته قومٌ واقتدى ببدعته طائفة من أصحابنا، وشككهم في اعتقادهم حسن ظنِّهم فيه، واعتقادهم أنه من جملة دعاة السُّنَّة، فوجب حينئذٍ كشف حاله، وإزالة حسن ظنِّهم فيه، ليزول عنهم اغترارهم بقوله، وينحسم الداء بحسم سببه، فإن الشيء يزول من حيث ثبت".
ج/ قال الإمام ابنُ القيم في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) (ص 47-48) بعد كلامٍ مطولٍ له عن ظلمات أهل الجهل والبدعة، وأنوار أهل السنة، قال:" سُبحان الله! ماذا حُرم المعرضونَ عن نُصوص الوحي واقتباس الهدى من مِشْكاتها من الكنوز والذخائر، وماذَا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر؟ قنعوا بأقوال استنبطها معاول الآراء فكراً وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبراً، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجوراً، درست معالم القرآن في قلوبهم، فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم، فليسوا يعمرونها، ووقعت أعلامه من أيديهم، فليسوا يرفعونها، وأفَلَتْ كواكبه من آفاقهم فليسوا يبصرونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها، فليسوا يثبتونها.
خَلعوا نصوص الوحي عن سُلطان الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، شنوا عليها غارات التحريف بالتأويلات الباطلة، فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم المخذولة كمين بعد كمين. نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام، فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام، وتلقوها من بعيد، ولكن بالدفع في صدورها والإعجاز. وقالوا ما لك عندنا من عبور، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز، أنزلوا النصوصَ منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان، حرموا والله الوصول بخروجهم عن منهج الوحي، وتضييع الأصول، وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها، فخانتهم أحرص ما كانوا عليها، وتقطعت بهم أسبابهم أحوج ما كانوا إليها، حتى إذا بُعْثِرَ ما في القبور، وَحُصِّلَ ما في الصدور، وتميَّزَ لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه، وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه، وقدموا على ما قدموه، وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون، وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه.
فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكدّه هباء منثوراً، ويا عظم المصيبة عندما تبين بوارق آماله وأمانيه خلباً وغروراً.
فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه سبحانه وتعالى يوم تبلى السرائر؟!.
وما عذر من نبذ كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وراء ظهره في يوم لا ينفع فيه الظالمين المعاذر؟!.
أفيظن المعرض عن كتاب اللّه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينجو غداً بآراء الرِّجال، ويخلص من مطالبة اللّه تعالى له بكثرة البحوث والجدال. أو ضروب الأقيسة وتنوع الأشكال، أو بالشطحات والمشارات وأنواع الخيال؟!!.
هيهات! واللّه لقد ظنّ أكذب الظنّ ومنّى نفسه أبين المحال، وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى اللّه تعالى على غيره، وتزوّد التقوى، وأتم بالدليل، وسلك الصراط المستقيم، واستمسك من التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. واللّه سميع عليم".
الفائدة السَّابعة: الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَةِ الْمُسْتَرشِدِ إنْ كَانَ طَالِباً لِلْحَقِّ بَاحِثَاً عَنْهُ.
ولعلَّ فيما سبقَ من نُقولاتٍ يظهرُ للمرء المنصف أنَّ أهل العلم منْ مَقاصدهم الشريفة في الرَّدِّ على المخالفة والمخالف هداية الخلق، وبخاصة ممن كان باحثاً عنه لكنَّ شُغب عليه في الوصول إليه.
أ/ قالَ الإمام ابن بطة العكبري في (الإبانة الكبرى)(2/540-543):" فَإنْ قَال قائل : قَد حذرتنا الخصومة و المراء و الجدال والمناظرة ، وقَد علمنا أنَّ هذا هو الحق ، وأنَّ هذه سبيل العُلماء ، وطريق الصحابة والعُقلاء من المؤمنين والعلماء المستبصرين ، فإنْ جَاءني رجلٌ يَسألني عن شيء من هذه الأهواء التي قد ظَهرت، والمذاهب القبيحة التي قد انتشرت، ويخاطبني منها بأشياء يلتمسُ منِّي الْجَواب عليها، وأنا ممن قد وهبَ الله الكريم لي علماً بها ، وبصراً نافذاً في كشفها ، أفأتركه يتكلم بما يريد ولا أجيبه، وأخليه وهواه وبدعته ، ولا أرد عليه قبيح مقالته؟.
فإني أقول له : اعلم يا أخي - رحمك الله- أنَّ الذي تُبلى به من أهل هذا الشَّأن لن يخلو أنْ يكونَ واحداً مِنْ ثَلاثة:
إمَّا رجلاً قد عَرفت حُسن طريقته وجميل مذهبه ومحبته للسَّلامة وقصده طريق الاستقامة ، وإنَّما قد طرق سَمعه من كلام هؤلاء الذين قد سكنت الشياطين قلوبهم، فهي تنطق بأنواع الكفر على ألسنتهم ، وليس يَعْرِفُ وجْهَ المخرج مِمَّا قد بُليَ به، فسؤاله سؤال مسترشد يلتمس المخرج مما بلي به ، والشفا مما أوذي . . . . . إلى علمك حاجته إليك حاجة الصّادي إلى الماء الزلال، وأنت قد استشعرت طاعته وأمنت مخالفته؛ فهذا الذي قد افترض عليك توفيقه وإرشاده مِنْ حَبائل كيد الشياطين، وليكن ما ترشده به ، وتوقفه عليه من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة من علماء الأمة من الصحابة والتابعين ، وكل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيَّاك والتكلف لما لا تعرفه، وتمحل الرأي، والغوص على دقيق الكلام ، فإنَّ ذلك من فعلك بدعة، وإن كنت تريد به السنة، فإن إرادتك للحق من غير طريق الحق باطل ، وكلامك على السنة من غير السنة بدعة، ولا تلتمس لصاحبك الشفاء بسقم نفسك، ولا تطلب صلاحه بفسادك ، فإنه لا ينصح الناس من غش نفسه، ومن لا خير فيه لنفسه لا خير فيه لغيره ، فمن أراد الله وفقه وسدده ، ومن اتقى الله أعانه ونصره ....
إلى أن قال- فإذا كان السائل لك هذه أوصافه ، وجوابك له على النحو الذي قد شرحته ، فشأنك به ، ولا تأل فيه جهدا ، فهذه سبيل العلماء الماضين الذين جعلهم الله أعلاما في هذا الدين ، فهذا أحد الثلاثة..".
ب/ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرد على البكري)(2/490):" وأئمة أهل السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم: العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحقَّ الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)- (المائدة: من الآية8)-، ويرحمونَ الخلقَ؛ فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشرَّ لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم وبيَّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم،كان قصدهم بذلك بيان الحق، ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كلُّه لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا".
ج/ قال الإمام ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة)(1/153):" جعل الله سبحانه وتعالى مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيبُ القابل الذكي الذي لا يُعاندُ الحق ولا يأباهُ يُدعى بطريق الحكمة.
والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخرٍ يُدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمرُ والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
والمعاندُ الجاحدُ يُجادلُ بالتي هي أحسنُ".
و زاد رحمه الله في (الصَّواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)(4/1276) في بيان وصف حال الأخير من الثلاثة بقوله:" ... وإما أن يكون معانداً معارضاً؛ فهذا يُجادلُ بالتي هي أحسنُ، فإن رجعَ إلى الحقِّ و إلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد، إن أمكن فلمناظرة المبطل فائدتان:
أحدهما: أنْ يرد عن باطله ويرجع إلى الحق.
الثانية: أن ينكف شره وعداوته، ويتبين للنَّاس أن الذي معه باطلٌ.
وهذه الوجوه كلُّها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف، فإنه كفيلٌ بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره، ورزق فهماً فيه..".
وختاماً أقولُ:
أسألُ الله العظيم ربَّ العرش الكريم أنْ يَنفعَ بِهذه الكتَابة كاتِبَها وقَارئها ومَنْ كان سَبباً فيها، وأنْ يُثبِّتنا جميعاً عَلى الإسلام والسُّنَّة حتى نلقاهُ، (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)،
وَصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم.
وكتب
عبدالله بن عبدالرَّحيم البخاري- كان الله له-
يوم الخميس الموافق للثامن من شهر صفر عام ثلاثين بعد الأربعمائة والألف من هجرة النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.