-الجزء العـاشر-
باب أحكام القِيَاس
[ في تعريف القياس ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 298]:
«وَحَدُّهُ: حَمْلُ أَحَدِ المَعْلُومَيْنِ عَلَى الآخَرِ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ إِسْقَاطِهِ بأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا».
[م] القياس لغة يطلق على معنيين:
المعنى الأول: التقدير، كقولك: «قست الثوب بالذراع» أي قدَّرت الثوب بالذراع.
والمعنى الثاني: يُطلق على المساواة سواء كانت المساواة حِسِّية كقولك: «قست الثوب بالثوب»، أي: ساويت أحدهما بالآخر، أو كانت المساواة معنوية، كقولك: «فلان لا يقاس بفلان»، أي: لا يساويه في العلم أو الفضل أو الاحترام.
والقياس الشرعي يراعى فيه المعنيان السابقان، أي: أنَّ القياس مشترك بين «التقدير» و«المساواة» اشتراكًا معنويًّا، بحيث يحمل لفظ القياس على التقدير المتضمِّن معنى المساواة، وعلى المساواة المتضمِّنة معنى التقدير من غير حاجة إلى قرينة، وهذا أولى من المصير إلى الاشتراك اللفظي؛ لأنَّه على خلاف الأصل، إذ الأصل عدم تعدّد الوضع، فاللفظ له معنى واحد لا أكثر، وإن وجد فيحتاج إلى قرينة، وكلّ ما يحتاج إليها فهو على خلاف الأصل.
هذا، ومن خلال تعريف المصنِّف للقياس في حدِّه المذكور يتبيَّن أنه اختار مذهب جمهور أهل العلم، في جعل القياس من فعل المجتهد لا يتحقَّق إلاَّ بوجوده، خلافًا لمن جعل القياس دليلاً مستقلًّا كالكتاب والسُّنَّة، وضعه الشارع لمعرفة حكمه، ويدلّ على هذا الاختيار تعبيره عن القياس بأنَّه «حمل أحد المعلومين…» ممَّا يفيد أنَّ القياس من فعل المجتهد ومكتسب منه، إذ الحمل يحتاج إلى حامل، وهو المجتهد أو القائس، أمَّا المذهب الثاني فقد عبَّر عنه ب «استواء» أو «مساواة»، فالأصل والفرع مستويان تمام التساوي لكن المجتهد يظهر هذا الاستواء.
وقوله: «بأمر جامع بينهما» هو عِلَّة الحكم، وتسمَّى -أيضًا- مناط الحكم، كالإسكار جامع بين النبيذ وهو الفرع المقيس، والخمر وهو الأصل المقيس عليه، ويستويان في الحكم وهو التحريم(1).
[ في حُجِّيـة القيـاس ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 299]:
«وَهُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عِنْدَ جَمِيعِ العُلَمَاءِ، وَقَالَ دَاوُدُ: «يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بهِ مِنْ جِهَةِ العَقْلِ إلاَّ أنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْهُ»».
[م] في تحرير محلِّ النِّزاع، فقد اتَّفق العلماء على حُجِّية القياس الصادر من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، كما اتفقوا على حُجِّيته في الأمور الدنيوية كمداواة الأمراض وتعاطي الأغذية والأدوية، وحُجِّيتُه ليست شرعية، وإنَّما حُجَّة صناعية مستمدَّة من العقل.
واختلفوا في جريان القياس في الأمور اللغوية كقياس النبش على السرقة، واللواط على الزنا، وإثبات الأسماء قياسًا(2)، وأكثر الشافعية على منع دخول القياس في اللغة، وبه قال الأحناف، وابن خُوَيْزَ مِنْدَاد وابن الحاجب من المالكية، وذهب القاضي عبد الوهاب المالكي إلى جواز دخول القياس في الحقيقة دون المجاز، ووافقه أبو بكر الطرطوشي(3). وذهب ابن فورك إلى الجواز وعدم الوقوع(4).
كما اختلفوا في التعبُّد بالقياس في الأمور الشرعية، والذي عليه مذهب السلف وجمهور الخلف: جواز التعبُّد به في الشرعيات عقلاً ووجوب العمل به شرعًا، وزاد القفال الشاشي وأبو الحسين البصري أنَّ العقل من الأدلة النقلية يدلُّ على وجوب التعبُّد به. ويرى القاساني(5)(6) والنَّهرواني وجوب العمل بالقياس في صورتين: الأولى: أن تكون العلة منصوصةً إمَّا بصريح اللفظ أو بإيمائه، والثانية: أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل.
ومذهب الظاهرية نفي القياس شرعًا وجوازه عقلاً، خلافًا لمن أنكره مُطلقًا في الشرعيات والعقليات، وهو مذهب الشِّيعة الإمامية والخوارج، ومن المعتزلة جعفر بن حرب(7)، وجعفر بن مبشر الثقفي(8)، وهما «الجعفران»(9)، ومحمَّد بن عبد الله الإسكافي(10)(11).
وذهب بعضُ المحقِّقين إلى القول بأنَّ داود بن علي لا ينكر من القياس إلاَّ الخفي دون الجليّ، وهو ما كانت عِلَّته منصوصة أو مومئًا إليها كمذهب القاساني والنهرواني(12)(13)، غير أنَّ النقل الصحيح عن ابن حزم أنه يُصرِّح -قطعًا للخلاف في النقل- بنفي ذلك عن داود أو أحد من أهل الظاهر، بل ينقل عنه القول بنفي تعليل أحكام الله وأفعاله أصلاً(14).
[ في حجية القياس من الكتاب ]
• قال المصنف -رحمه الله- في [ص 300] مستدلاًّ لمذهب الجمهور القائلين بحُجِّية القياس:
«وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةُ أَهْلِ العِلْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]، وَالاعْتِبَارُ -فِي اللُّغَةِ- هُوَ: تَمْثِيلُ الشَّيْءِ بالشَّيْءِ وَإِجْرَاءُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ».
[م] ما ذكره المصنِّف هو أحد معاني القياس وهو: تمثيل الشيء بغيره ومساواته به وإجراء حكمه عليه(15)، ويكون تقدير الآية: «اعلموا أنَّ حال التنازع والخلاف إذا صرتم إليه فإنه يساوي حال بني النضير، وتستحقُّون عليه من العقاب مثل الذي استحقوه»، والعبرة بعموم لفظ «الاعتبار» لا بخصوص السبب الوارد في شأن بني النضير، ولما كان ظاهر الأمر في الاعتبار للوجوب لانتفاء القرينة الصارفة، والوجوب من أفراد الجواز، كان القياس جائزًا.
غيرَ أنَّ ابن حزم -رحمه الله- اعترض على هذا الاستدلال بأنَّ «الاعتبار في لغة العرب لا يقع إلاَّ على التعجّب والتفكّر، وما عرفَتِ العربُ هذا القياس الذي يدَّعونه في الدِّين»(16)، وقال في موضع آخر: «ولا أعلم أحدًا قطّ في اللغة التي نزل بها القرآن أنَّ الاعتبار هو القياس، وإنَّما أمرنا تعالى أن نتفكَّر في عظيم قدرته في خلق السماوات والأرض، وما حلَّ بالعصاة…»(17)، وأجيب بأنَّ لفظ «الاعتبار» يدور بين معانٍ ثلاثة؛ إمَّا أن يكون بمعنى القياس وقد تقدَّم تمثيله، أو بمعنى المجاوزة؛ لأنَّ الاعتبار معناه العبور والانتقال من مكان إلى آخر، والعبور هو المجاوزة، فكذلك القياس؛ لأنَّه مجاوزة الحكم من الأصل إلى الفرع، فكان القياس هو الاعتبار، وإمَّا أن يكون الاعتبار بمعنى الاتعاظ، وفيه معنى المجاوزة أيضًا، ووجه تقدير الآية: «إنَّا ألحقنا بهم الجزاء، فقيسوا أمركم عليهم يا أولي الأبصار»، فإنَّما يحصل الاتعاظ عند قياس أفعالنا على أفعالهم في حلول العقاب ووصول الجزاء.
[ في حجية القياس من السنة ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 304] بعد الاستدلال على حُجِّية القياس من جهة السُّنَّة بأحاديث: في مسألة قُبلة الصائم، والنَّذر على الميِّت، والذي أنكر لون ابنه:
«وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُحْصَى كَثْرَةً».
[م] فمن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا»(18) فحَكَم بتحريم ثمنها باعتبار تحريم أكلها، ومن ذلك أنه أمر سعد بن معاذ رضي الله عنه أن يحكم في بني قريظة برأيه، وأمرهم بالنزول على حكمه، فأمر بقتلهم وسبي نسائهم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ»(19)، وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه علَّل كثيرًا من الأحكام، والتعليل موجب لاتباع العِلَّة وذلك نفس القياس، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لحُومِ الأَضَاحِي لِأَجْلِ الدَافَّةِ(*) فَادَّخِرُوهَا»(20)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ أَلاَ فَزُرُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ بِالآخِرَةِ»(21)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما سُئل عن بيع الرطب بالتمر: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ ؟ فقالوا: نعم، فقال: لاَ إذًا»(22)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حقِّ المحرم الذي وقصته الناقة: «لاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلاَ تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًّا»(23)، وقال في شهداء أحد: «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ»(24)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في المستيقظ من النوم: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُم مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»(25).
[ في حجية القياس من جهة عمل الصحابة به ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 304] عند الاستدلال باختلاف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل كثيرة بناء على اختلافهم في إلحاق الفرع بأصل يشبهه:
«اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ فِيهَا مُنَاظَرَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمُنَازَعَاتٌ مَشْهُورَةٌ وَمُرَاجَعَاتٌ كَثِيرَةٌ كَاخْتِلاَفِهِمْ فِي تَوْرِيثِ الجَدِّ مَعَ الإخْوَةِ، وَاخْتِلاَفِهِمْ فِي الحَرَامِ، وَالعَوْلِ، وَالظِّهَارِ».
[م] ففي توريث الجدّ مع الإخوة قد اختلف ابنُ عباسٍ مع زيدٍ ابن ثابت رضي الله عنهم وكلِّ واحد منهما اعتمد على القياس دليلاً، فزيد بن ثابت رضي الله عنه ورث الإخوة مع الجدِّ، حيث أَلْحق الأخ بالجدِّ بجامع أنَّ كلًّا منهما قد أدلى إلى الميِّت بالأب، بينما يذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنَّ الجدَّ يحجب الإخوة، حيث أَلْحق الجدَّ إلحاقًا قياسيًّا بابن الابن، فكما أنَّ ابن الابن في منزلة الابن في حَجبه للإخوة فكذلك الجدّ في منزلة الأب في حجبه للإخوة(26)، ولهذا أنكر على زيد بن ثابت رضي الله عنه بقوله: «أَلاَ يَتَّقِي اللهَ زَيْدٌ يَجْعَلُ ابْنَ الابْنِ ابْنًا، وَلاَ يَجْعَلُ أَبَ الأَبِ أَبًا»(27).
- ومن ذلك قول الزوج لزوجته: «أنتِ عليَّ حرام»، فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في حكم هذه المسألة على أقوال، فقد ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنه في حكم الظهار، وذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى أنه في حكم التطليقة الواحدة، ومنهم من جعله في حكم التطليقات الثلاث، وهو مذهب عليٍّ وزيد وابن عمر رضي الله عنهم، ومنهم من ألزم فيه الكفارة؛ لأنه في حكم اليمين وهو مذهب أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم، وعليه فمن جعله ظهارًا فقد ألحقه بصيغته لمشابهته له في اقتضاء التحريم، ومن جعله طلاقًا ألحقه بالألفاظ الموضوعة للطلاق؛ لأنه لفظ مؤثّر في تحريم الزوجة، ومن احتاط في أمره جعله ثلاثًا، ومن أخذ بالمتيقّن جعله في حكم الطلاق الرجعي، ومن توسَّط جعله تطليقة بائنة، ومن جعله يمينًا ألزم صاحبه الكفارة(28).
- والعول في اصطلاح علماءِ الميراث يُراد به زيادة سهام الورثة على مقدار التركة التي تعتبر واحدًا صحيحًا، وتسمَّى الفريضة في هذه الحالة الفريضة العائلة، وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في حكم العول، وأخذ به جمهور الصحابة ومنهم: عمر، وعليّ، وزيد بن ثابت وغيرهم رضي الله عنهم، وبه قال فقهاء الأمصار، وخالف في ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، وأخذ برأي ابن عباس الظاهرية وغيرُهم(29)، ومن حُجج القائلين بالعول: القياس على قسمة مال المدين المفلس على دائنيه إذا ضاق المال عن وفاء جميع ديونهم، إذ يقسم مال المدين عليهم قسمة الغرماء، فيلحق كُلّ دائن شيء من النقص عن دينه، فلا يصله كلّ دَينه، ومثله الميت بين الغرماء على حَسَب ديونهم بالحصص إذا لم يف بجميع الديون، وكذلك بالقياس على قسمة الثلث بين الموصى لهم إذا ضاق عن إيفائها جميعًا، وهكذا الورثة يجب أن يَلحق فروضَهم جميعًا شيءٌ من النقص إذا ضاقت التركة بالوفاء بكامل هذه الفروض(30).
- ولا خلاف بين العلماء لمن قال لزوجته: «أنتِ عليَّ كظهر أُمِّي» أنه مُظاهر، لكن اختلفوا في قوله: «أنتِ عليَّ حرامٌ»(31)، فذهب كلُّ واحدٍ من العلماء إلى تمثيله بأصلٍ يشبهه، فألحقه بعضُهم بالإيلاء، وبعضهم بالظهار، وبعضُهم بالطلاق الثلاث وبعضهم باليمين كما تقدَّم(32).
فالحاصل أنَّ هذا القدر المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم من العمل بالقياس -وإن كان آحادًا- فلا يمتنع تواتر القدر المشترك بين التفاصيل، وهو القول بالقياس والعمل به في الجملة.
[ في حجية القياس من الإجماع ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 309] بعد أن ذكر إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أحكام كثيرة من جهة القياس والرأي:
«وَمَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسْأَلَةً يُدَّعَى الإِجْمَاعُ فِيهَا أَثْبَتُ فِي حُكْمِ الإِجْمَاعِ مِنْ هَذِهِ المَسْأَلَةِ».
[م] والاستدلال بالإجماع من أقوى الحُجج في هذه المسألة، وهو أنَّ الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على استعمال القياس في وقائعَ لا تحصى ممَّا لا نصَّ فيها، ومَثَّلوا الوقائعَ بنظائرها وشَبَّهوها بأمثالها، ورَدُّوا بعضَها إلى بعضٍ في أحكامها، وأنه ما من واحدٍ من أهل النَّظر والاجتهاد منهم إلاَّ وقد قال بالرأي والقياس، ومن لم يوجد منه الحكم بذلك، فلم يوجد منه في ذلك إنكار، فكان إجماعًا سكوتيًّا وهو حُجَّة مغلبة على الظنِّ(33).
أمَّا الروايات الواردة من الصحابة رضي الله عنهم في إنكار الرأي وذمِّ القياس فلا تُعارض إجماعهم على القول والعمل به، ذلك لإمكان التوفيق بين النقلين عنهما، ووجه التوفيق: أن يُحمل ما نقل عنهم من إنكار القياس وذمّ العمل بالرأي على صدوره من جاهل، أو من قائس لم يصل إلى درجة الاجتهاد، أو كان القياس مخالفًا للنصّ، أو اختلَّ بعض شروط المقيس، أو المقيس عليه، أو العِلة، أو الحكم، أو ليس له أصل يشهد له بالاعتبار، أو ما كان على خلاف القواعد الشرعية، وهذا النوع من القياس المذموم يُسمَّى بالقياس الفاسد، ويحمل ما نقل عنهم القول بالقياس والعمل بالرأي على القياس الصادر من أهل النَّظر والاجتهاد، المستكمل لجميع شروط الاحتجاج به، وهذا النوع يُسمَّى بالقياس الصحيح.
وعليه يجب حمل كُلِّ ما ذُكِرَ في ذمِّ الرأي على الرأي الفاسد الباطل، دفعًا للتعارض وتحقيقًا للجمع بين الدليلين، والجمع أولى من الترجيح، والإعمال أولى من الإهمال.
هذا، ويترتَّب على الخلاف في جواز الاحتجاج بالقياس الاختلاف في كثير من الأحكام الفرعية منها:
w في وقوع الربا في غير الأصناف السِّتَّة الواردة في حديث عبادةَ ابن الصامت رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ»(34)، فالمثبتون للقياس أجروا الحكم في كلِّ صنف يشابه هذه الأصناف في العِلَّة مع اختلافهم في العِلَّة وهو مذهب الجمهور، أمَّا المنكرون للقياس فإنَّ الرِّبا يقع على الأصناف السِّتَّة المذكورة في الحديث، ولا يتعدَّى حكم الربا إلى غيرها من الأصناف، عملاً بأصلهم في إبطال القياس وهو مذهب الظاهرية(35).
w في اشتراط التقام الثدي في ثبوت الرضاع: فالمثبتون للقياس لم يشترطوا ذلك، بل إذا دخل اللبن إلى جوف الصبي دون السنتين عن طريق السَّعوط(36) والوَجور(37) فإنه يثبت الرضاع ويتحقَّق معه التحريم؛ لأنَّ العِلة في تحريم الرضاع إنبات اللحم وإنشاز العظم، وهي موجودة سواء عن طريق الأنف أو صبِّ اللبن في الحلق فثبتت الحرمة قياسًا، وهو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك الظاهرية واشترطوا في ثبوت التحريم بالرضاع وصول اللبن إلى الجوف عن طريق التقام الثدي، عملاً بأصلهم في نفي القياس(38).
w في وقوع الظهار وما ثبت به من الألفاظ: يرى المثبتون للقياس أنَّ من قال لأهله: أنتِ عليَّ كظهر أختي، أو كيَدِ أمِّي، أو كرجلها أو نحو ذلك من الصيغ التي تماثلها من تشبيه الزوجة بمن تحرم عليه فإنَّه يحصل بها الظهار قياسًا على لفظ الظهار المُجمَع عليه وهو: «أنتِ عليَّ كظهر أُمِّي»، وهو مذهب الجمهور، أمَّا الظاهرية فإنَّه لا يحصل الظهار إلاَّ بالصيغة المجمع عليها دون غيرها عملاً بأصلهم في نفي القياس(39).
فـصلٌ
[ جريان القياس في الحدود والكفارات والمقدرات والأبدال ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 309]:
«إِذَا ثَبَتَ أَنَّ القِيَاسَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تُثْبَتَ بهِ الحُدُودُ وَالكَفَّارَاتُ وَالمُقَدَّرَاتُ وَالأَبْدَالُ». .
«يتبع»
1- للقياس تعريفات اصطلاحية أخرى، انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (298).
2- وفائدة قياس اللغة أنه إذا ثبتت الأسماء قياسًا فلا يحتاج إلى القياس الشرعي، كالنبيذ إذا أدخل مثلاً في اسم الخمر بقياس اللغة فإنَّ نصوص الشرع تتناوله بالتحريم لدخول النبيذ في الخمر بخلاف من لا يثبته. [انظر: «مذكرة الشنقيطي» (173)].
3- هو أبو بكر محمَّد بن الوليد بن محمَّد القرشي الفهري الطرطوشي، يعرف في وقته بابن أبي رَنْدَقَة، ولد سنة (451ه)، وله رحلة إلى المشرق كان عالِمًا بالفقه، ومسائل الخلاف والأصول والفرائض والأدب، له مؤلَّفات قَيِّمَةٌ منها: «سراج الملوك» و«الحوادث والبدع» وتعليقة على مسائل الخلاف والأصول، توفي سنة (520ه). [انظر ترجمته في: «الصلة لابن بشكوال» (2/575)، «معجم البلدان» لياقوت (4/30)، «بغية الملتمس» للضبي (135)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/262)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (19/490)، «الديباج المذهب» لابن فرحون (276)، «الوفيات» لابن قنفد (60)، «شذرات الذهب» لابن العماد (4/62)].
4- انظر مسألة جريان القياس في اللغة في: «المعتمد» لأبي الحسين (2/789)، «التبصرة» للشيرازي (444)، «المنخول» للغزالي (71)، «المستصفى» للغزالي (1/146، 2/90)، «البحر المحيط» للزركشي (2/25، 5/64)، «سلاسل الذهب» للزركشي (364)، «الخصائص» لابن جني (1/357)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (1/223)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (1/85)، «المسودة» لآل تيمية (173)، «مذكرة الشنقيطي» (173).
5- كذا ضبطه الزركشي في «المعتبر» (278) وابن حجر في تبصير المنتبه (3/1146)، والسعد التفتازاني في حاشيته على شرح العضد (2/58)، وغيرهم بالقاف والسين المهملة نسبة إلى «قاسان» في ناحية مجاورة ل «قم»، وقيل: القاشاني نسبة إلى قاشان، أمَّا بالسين المهملة فهي ناحية من نواحي أصبهان، والأول أصحّ.
6- هو أبو بكر محمَّد بن إسحاق القاساني، كان ظاهريًّا من أصحاب داود، وخالفه في مسائل كثيرة من الأصول والفروع، ثمَّ صار شافعيًّا، توفي سنة (280ه).
انظر ترجمته في: «طبقات الفقهاء» للشيرازي (176)، «الفهرست» للنديم (213)، «المعتبر» للزركشي (279)، «اللباب» لابن الأثير (3/7)، «تبصير المنتبه» لابن حجر (3/1147)، «هدية العارفين» للبغدادي (2/20).
7- هو أبو الفضل جعفر بن حرب الهمداني البغدادي، أحد رؤوس المعتزلة في زمانه، من الطبقة السابعة، كان تلميذًا لأبي الهذيل العلاف في البصرة، وكان يميل إلى الزيدية، وله عدّة مصنفات، منها: «الأصول الخمسة»، و«كتاب المسترشد»، وكتاب «التعليم»، وكتاب «الديانة»، توفي سنة (236ه).
انظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (7/162)، «الفهرست» للنديم (55)، «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة» للبلخي وعبد الجبار والجشمي (281)، «لسان الميزان» لابن حجر (2/113)، «الأعلام» للزركلي (2/116)، «معجم الأدباء» لكحالة (1/489)، «تاريخ التراث العربي» لسزكين (2/402).
8- هو أبو محمَّد جعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي البغدادي أحد رؤوس المعتزلة من الطبقة السابعة له آراء انفرد بها وتصانيف، توفي سنة (234ه).
انظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (7/162)، «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة» للبلخي وعبد الجبار والجشمي (283)، «لسان الميزان» لابن حجر (2/121).
9- وإلى الجعفرين تنسب فرقة «الجعفرية» من فرقة المعتزلة. [انظر: «الفرق بين الفرق» للبغدادي (153)، و«ميزان الاعتدال» للذهبي (1/405، 414).
10- هو أبو جعفر محمَّد بن عبد الله الإسكافي البغدادي، من رؤساء المعتزلة وزهادهم، من الطبقة السابعة، تتلمذ على جعفر بن حرب، وإليه تنسب فرقة «الإسكافية» من المعتزلة، له تصانيف كثيرة منها: «نقض مقالات العثمانية»، و«المقامات» وغيرها، توفي سنة (240ه).
انظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (5/416)، «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة» للبلخي وعبد الجبار والجشمي (285)، «الفرق بين الفِرق» للبغدادي (155)، «لسان الميزان» لابن حجر (5/221)، «الأعلام» للزركلي (7/92).
11- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (299).
12- هو أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحي القاضي النَّهرواني، المعروف بابن طَرَارَا، والملقب بالجريري؛ لأنه كان على مذهب ابن جرير، كان من بحور العلم، كثير الرواية والتصنيف فيها، قال ابن الأثير: «كان من أعلم الناس في زمانه يعرف كل نوع من العلوم»، له تفسير كبير في ست مجلدات وله كتاب «الجليس والأنيس»، توفي سنة (390ه).
انظر: «طبقات الشيرازي» (93)، «الفهرست» للنديم (136)، «اللباب» لابن الأثير (3/337)، «دول الإسلام» للذهبي (1/236)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (5/221)، «البداية والنهاية» لابن كثير (11/328)، «طبقات المفسرين» للداودي (2/323)، «شذرات الذهب» لابن العماد (2/134).
13- انظر: «الإحكام للآمدي» (3/110)، «الإبهاج» للسبكي وابنه (3/7)، «جمع الجوامع» لابن السبكي (2/204).
14- انظر: «الإحكام» لابن حزم ( 8/76)، «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (2/74)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (200).
15- ومن أمثلة تمثيل الشيء بغيره قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: 26]، ففيه معنى القياس لتشبيه الشيء بالشيء وتمثيله بالآخر فما جاز من فعل من لا يخفى عليه خافية فهو ممَّن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز، وقد أجيب عليه بأنَّه وحي ونصّ لا يدخل في محلّ النِّزاع للاتفاق على جوازه، فضلاً عن عدم صِحَّته من جهة أنَّ من لا تخفى عليه خافية نعلم صِحَّته بخلاف من لا يخلو من الجهالة والنقص فلا نقطع بصِحَّته، بل ولا نظنّ ذلك لما في فاعله من الجهالة والنقص. [«إرشاد الفحول» للشوكاني: (202)].
16- «النبذ» (62)، «ملخص إبطال القياس» كلاهما لابن حزم (9).
17- «الإحكام» (7/75)، «النبذ» كلاهما لابن حزم (62).
18- أخرجه مسلم (11/7)، وأبو داود (3/758)، وأحمد في «مسنده» (1/322) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري (4/424، 8/20، 295)، ومسلم (11/5)، وأبو داود (3756)، والترمذي (3/591)، والنسائي (7/177)، وابن ماجه (2/732)، من حديث جابر رضي الله عنه.
19- أخرجه البخاري (6/165)، ومسلم (12/92)، وأحمد في «مسنده» (3/22، 70)، والبغوي في «شرح السُّنَّة» (11/92)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(*) الدافة: قوم يسيرون جميعًا سيرًا خفيفًا، والدافة: قوم من الأعراب يردون المصر، والمراد هنا من ورد من ضعفاء الأعراب إلى المدينة عند الأضحى للمواساة. [انظر: «موطأ مالك» (2/36)، «النهاية» لابن الأثير (2/124)، «نيل الأوطار» للشوكاني (6/253)].
20- أخرجه مسلم (13/130)، وأبو داود (3/241)، والنسائي (7/235)، وأحمد (6/51)، ومالك في «الموطأ» (2/36)، والدارمي (2/79)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/188)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (9/293)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
21- سبق تخريجه، انظر: (ص 116 ).
22- سبق تخريجه، انظر: (ص 149).
23- متفق على صحَّته: أخرجه البخاري (3/135، 137، 4/52، 63، 64)، ومسلم (8/126، 127، 128، 129، 230)، والنسائي (4/39)، وأحمد في «مسنده» (1/215، 220، 221)، والدارمي في «سننه» (2/49)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (3/390)، والبغوي في «شرح السُّنَّة» (5/321)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
24- أخرجه الشافعي في «مسنده» (357،) وأحمد في «مسنده» (5/431)، والنسائي (4/78)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/11)، من حديث عبد الله بن ثعلبة بن صخر رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء» (3/168). وأخرجه أحمد في «مسنده» (3/299)، والبخاري (9/212)، وأبو داود (3/501)، وابن ماجه (1/485)، والترمذي (3/345)، والنسائي (4/62)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (4/10)، والبغوي في«شرح السُّنَّة» (5/365)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ: «أَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ».
25- متفق عليه: أخرجه البخاري (1/263)، ومسلم (3/178)، وأبو داود (1/78)، والترمذي (1/36)، والنسائي (1/7)، وابن ماجه (1/139)، ومالك (1/43)، والشافعي في «مسنده» (10)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
26- انظر مسألة توريث الجدّ مع الإخوة في «المحلى» لابن حزم (9/282)، «المنتقى» للباجي (6/232)، «بداية المجتهد» لابن رشد (2/346)، «المغني» لابن قدامة (6/217).
27- روى البخاري في «صحيحه» (12/18) لفظ ابن عباس رضي الله عنهما: «يرثني ابن ابني دون إخوتي، ولا أرث أنا ابن ابني»، وهذا الأثر جاء مبيَّنًا في «فتح الباري» لابن حجر (12/20).
28- انظر: «المحلى» لابن حزم (10/124)، «المغني» لابن قدامة (7/154، 346)، «المحصول» للرازي (2/2/78)، «الإحكام» للآمدي (3/122)، «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (18/180)، «أعلام الموقعين» لابن القيم (3/64).
29- انظر: «المحلى» لابن حزم (9/262)، «المغني» لابن قدامة (6/189)، «العذب الفارض» لإبراهيم الفرضي (1/162).
30- «المبسوط» للسرخسي (29/163)، «المهذب» للشيرازي (2/28).
31- واختلفوا –أيضًا- فيمن قال لزوجته: «أنتِ عليَّ حرام كظهر أُمِّي أو كأمي» على أقوال.. [انظر: «المغني» لابن قدامة (7/154، 346)، «بدائع الصنائع» للكاساني (3/337)].
32- انظر: «المنتقى» (4/38)، «إحكام الفصول» كلاهما للباجي (582).
33- «الإحكام» للآمدي (3/123).
34- أخرجه أحمد (5/320)، ومسلم (6/14)، وأبو داود (3/646)، والترمذي (3/541)، والنسائي (7/274)، وابن ماجه (2/757)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
35- انظر تفصيل المسألة في: «مختارات من نصوص حديثية في فقه المعاملات المالية» للمؤلف (210) وما بعدها.
36- السَّعوط: وهو ما يجعل من الدواء في الأنف. [«النهاية» لابن الأثير (2/368)].
37- الوَجور: هو الدواء الذي يصب في وسط الفم. [«مختار الصحاح» للرازي (710)، «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (632)].
38- «أسباب اختلاف الفقهاء» لعبد الله التركي (112)، «أثر الاختلاف في القواعد» للخن (487).
39- انظر: «المحلى» لابن حزم (10/50)، «المغني» لابن قدامة (7/515)، «بداية المجتهد» لابن رشد (2/105).