يقول العلامة ابن سعدي في منظومته
والأصل في الأبضاع واللحوم
والنفس والأمـوال للمعصوم
تحريمها حتى يجيء الحـل
فـافهم هـداك الله ما يُمـل
قال: "والأصل في اللحوم التحريم". وهذا مذهب بعض الفقهاء، أن الأصل في اللحوم هو التحريم. ويستدلون على ذلك بحديث عدِي، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « إذا أرسلت كلبك المعلم، ووجدت معه غيره فقتل، فلا تأكل فإنك لا تدري أيَّهما قتل »6 ويستدلون على ذلك: بأنه إذا اجتمع في نوع اللحم سبب مُبيح وسبب حاظر، غلب جانب الحظر. كما في البغل، وكما في الطير إذا صيد بالسهم، فوقع في الماء. وقد ورد في ذلك حديث في النسائي.
ولعل هذه الأدلة ليست في مسألة الأصل؛ لأن هذه الأدلة لما اجتمع فيه سببان: سبب تحريم، وسبب إباحة. كلب صيد وكلب أجنبي، سهم وغرق. ومسائل الأصل -كما تقررت سابقا- يراد بها: المسائل التي ليس فيها دليل. لا دليل إباحة، ولا دليل تحريم؛ ولذلك فإن الأظهر أن الأصل في اللحوم هو الحل، وليس التحريم.
كما قلنا في المياه: الأصل فيها الطهارة، ولو اجتمع سبب طهارة، وسبب نجاسة في الماء، حرم. ولا يدل ذلك على: أن الأصل في المياه هو النجاسة.
ويدل على: أن الأصل في اللحوم هو الجواز والحل، قوله سبحانه: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ﴾7 الآية، فإنه دل على: أن الأصل هو الحل والجواز، وأن التحريم مستثنى. ويدل على ذلك: قوله جل وعلا: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾8 فدل أن الأصل هو الحل والجواز في اللحوم المأكولة، وأن التحريم مستثنى.
ويدل عليه أيضا: قوله جل وعلا: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾9 فحصر المحرمات بأداة الاستثناء "إنما" وقوله جل وعلا: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ﴾10 الآية، فدل ذلك على أن الأصل في اللحوم هو الإباحة.
ويدل عليه أيضا ما ورد في السنن، من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- « سئل عن اللحوم التي تؤتى إليهم، ولا يُدرى هل ذكر اسم الله عليها أو لا؟ فقال: اذكروا اسم الله عليها أنتم وكلوا »11 ولو كان الأصل في اللحوم التحريم؛ لقيل: لا تأكلوا حتى تعلموا قيام سبب الإباحة. إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن الأصل في اللحوم هو الحل والجواز، حتى يأتي دليل يغيره.
--------------------------------------------------------------
6 : البخاري : الذبائح والصيد (5486) , ومسلم : الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والترمذي : الصيد (1470) , والنسائي : الصيد والذبائح (4264) , وأبو داود : الصيد (2847) , وابن ماجه : الصيد (3208) , وأحمد (4/256) , والدارمي : الصيد (2002).
7 : سورة الأنعام (سورة رقم: 6)؛ آية رقم:145
8 : سورة الأنعام (سورة رقم: 6)؛ آية رقم:119
9 : سورة البقرة (سورة رقم: 2)؛ آية رقم:173
10 : سورة المائدة (سورة رقم: 5)؛ آية رقم:3
11 : البخاري : البيوع (2057) , والنسائي : الضحايا (4436) , وأبو داود : الضحايا (2829) , وابن ماجه : الذبائح (3174) , ومالك : الذبائح (1054) , والدارمي : الأضاحي (1976).
شرح الشيخ الشثري على منظومة القواعد الفقهية