1-نشأة الإمام الجويني ووفاته.
أ-نشأته:
أ-1- نسبه:
هو أبو المعالي عبد الملك ابن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيوية الطائي السنسبي[1] .
وقال الذهبي*: هو ابن الإمام أبي محمد عبدا لله بن يوسف بن عبدا لله بن يوسف بن محمد بن حيوية الجويني**[2].
وقال الأسنوي: هو ضياء الدين ابو المعالي، عبد الملك إمام الحرمين ابن الشيخ أبي محمد الجويني إمام الأئمة في زمانهم وأعجوبة دهره وأوانه وفي أئمة خراسان بمنزلة العين من الإنسان، إن عرضت الشبهات أذهب جوهر ذهنه ما عرض وتعارضت المشكلات فوجه إليها سهم فكره فأصاب الغرض[3] .
وهذه السلسلة الطويلة في نسبه، تشير إلى عراقة أسرته، كما أن تكرار إسم يوسف وعبد الله في هذا النسب يشير إلى تقليد تسمية الأحفاد بأسماء الأجداد لدى الأسر العريقة وقد استمر هذا التقليد إلى يومنا هذا.
وينتسب الجويني إلى جوين وهي من قرى نيسابور*[4] ونيسابور مدينة آهلة بالسكان عامرة بالمدارس لذلك اتخذ منها طغرلبك وألب أرسلان حاضرة للسلطنة فهي بعد بغداد عاصمة الخلافة رتبة في حضارتها وسعتها.[5]
أما ألقابه فأشهرها الفقيه الشافعي الملقب بضياء الدين المعروف بإمام الحرمين وقد أطلق عليه لقب إمام الحرمين لمجاورته وتدريسه في الحرمين الشريفين إذ خرج إلى الحجاز، وجاور بمكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي.
ويلقب أيضا بضياء الدين ولعل ذلك يرجع إلى صحة استدلالاته وسلامة المنطق العقلي الذي استند إليه في آرائه بحيث أصبح هذا المنطق طريقا يضئ النور أمام الباحثين الراغبين في الوصول إلى الحق.
ومن الألقاب التي أطلقها عليه المؤرخون أيضا ولكل لقب من هذه الألقاب حقيقته التي تنطبق على جانب من جوانب هذه الشخصية المتميزة نجد: أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي[6] ،
كما نجده بإمام المشرق كله في الفقه والأصول والكلام وبما أنه جمع بين مختلف العلوم الفقهية التي كانت مساهمة بدورها في إبراز شخصيته أطلقت ألقاب إضافية منها: الفقيه، المجتهد الأصولي، علامة المشرق، العالم الزاهد، المتواضع، التقي.[7]
أ- 2 - مولده:
اجمع المترجمون للإمام الجويني على أن مولده كان في تسعة عشر وأربعمائة من الهجرة وبالضبط في الثامن عشر من محرم[8] الموافق لثمانية وعشرين وألف للميلاد وفي هذا يقول ابن الملقن* "ولد إمام الحرمين الجويني سنة تسعة عشر وأربعمائة" وهو التاريخ المتفق عليه لدى العديد من المؤرخين[9] رغم أن بعضهم أو القليل منهم يرى أنه ولد في سنة سبعة عشر وأربعمائة كم يقول ابن الأثير في الكامل.
وقد ولد الإمام بقرية جوين إحدى قرى نيسابور[10] ببلاد خراسان كما رأينا سابقاً[11] .
أ-3- أسرته:
ينتمي الإمام الكبير شيخ الشافعية، أبو المعالي، إلى بيت علم وفضل، حيث كان أبوه فقيها، محدثا، صاحب تصانيف جليلة، وكان جده مرموقا في جوين، ذا فضل وأدب، ولدلك قال عنه ابن عساكر: "رباه حجر الإمامة، وحرك ساعد السعادة مهده وأرضعه ثدي العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ونبغ[12] "، فأبوه هو أبو محمد عبد الله، ابن يوسف، ابن عبد الله، بن يوسف، بن محمد، بن حيوية، الطائي السنسبي، وروى الذهبي عن ابن الأخرم قال: "سمعت أبي محمد يقول أنا من سنبس قبيلة من العرب" هذا والده اسمـاً ولقبـاً وقبيلة، وأمـا منزلته لقد كان إماماً عمره بنيسابور، تفقه على أبي الطيب سهار بن محمد الصعلوكي، قرأ الأدب على والده يوسف بجوين وبرع في الفقه وصنف في التصانيف المفيدة وشرح الرسالة للشافعي، كان ورعا، دائم العبادة، مات بنيسابور سنة 438هـ [13] .
وفي سير النبلاء قال ابو عثمان الصابوني: "لو كان الشيخ ابو محمد في بني إسرائيل لنقلت شمائله وافتخروا بها وذكروا له من الكرامات ما ذكروا ونسبوا سرها إلى فتاويه، وأنها كانت السر في هذه الكرامات ، وقالوا كان صاحب جد ووقار، مجتهد في العبادة مهيبا بين عارفيه وتلاميذه" [14] .
وفي جانب آخر من البيت نرى عمه أبا الحسن علي ابن يوسف الجويني، المعروف بشيخ الحجاز، كان صوفيا، فاضلا، مشتغلا بالعلم والحديث، صنف كتابا في علوم الصوفية ورتبا مبوبا، سماه كتاب السلوة، سمع شيوخ أخيه، وسمع أيضا أبا نعيم بن عبد الملك بن الحسن الإسفراييني* بنيسابور، وبمصر أبا محمد عبد الرحمان بن عمر النحاس، وروى عنه ذاهر ورجب ابن طاهر الشخاميان، ومات بنيسابور عام 463هـ .
فجده أديب مرموق، وعمه صوفي محدث، ووالده فقيه عابد[15] ، وقيل أن والده كان في أول الأمر ينسخ بالأجرة، وأنه جمع من ذلك ما اشترى به جارية صالحة، ولم يزل يطعمها من كسب يديه حتى حملت به، فلما ولدته حرص أن لايطعمه ما فيه أدنى شبهة، ويحكى أنه تلجج يوماً في مجلس مناظرة فقيل له: ما هذا، قال: ما أراها إلا آثار بقاء المصة لمصة مصها من جارية في صغره، لشغل أمه عنه، فقيأه والده وفرغه، قال فهذه اللجلجة من بقايا تلك الآثار[16] ، وهكذا اختارت له العناية الإلهية بيتاً صالحاً ومهداً نقياً يرعاه والده الإمام بن الإمام، ويلحظه عمه الصوفي المحدث، العالم، وتكفله أمه بالحلال المصفى [17] .
ب-وفـاته:
وظل إمام الحرمين مجاهدا في دين الله، ناصرا سنة نبيه، حتى أدركه قضاء الله، الذي لا راد له، فمرض باليرقان[18] * وبقي به أيام وبرئ منه، وعاد إلى الدرس والمجلس، وحصل السرور للخواص والعوام، فلم يكن إلا يسيرا حتى عاوده المرض وغلبت عليه الحرارة، فحمل في محفة إلى قرية من قرى نيسابور، لاعتدال هوائها وخفة مائها،[11] والتي تدعى بشتنقان.[20]
ولقد اتفق المؤرخون لحياة الإمام الجويني على أنه توفي ليلة الأربعاء بعد صلاة العشاء في الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 478هـ وله تسع وخمسون سنة[21] ويوافقه في السنة الميلادية خمس وثمانون بعد الألف، ودفن في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين، فدفن إلى جانب والده، وكسر منبره في الجامع، وأغلقت الأسواق، ورثوه بقصائد، وكان له نحو أربعمائة تلميذ، وكسرو محابرهم وأقلامهم، وأقاموا على ذلك حولا.
وقال ابن خلكان في تاريخه: "وصلى عليه ابنه ابو القاسم* بعد جهد جهيد"،[22] ومن بين ما رثي به قول بعضهم:
قلوب العالمين على المقالي وأيام الورى شبه الليـالي
أيثمر غض أهل العلم يوماً وقد مات الإمام أبو المعالي[23]
2-صفـاتـه:
وقد حباه الله صفات عالية وأخلاق سامية، هيأت له تلك المنزلة التي شغلها بين العلماء، وجعلته جدير بالمكانة التي اعتلاها بين الحكماء، وقد ذكرواْ[24] أنه كان رحمه الله متواضعاً جداً بحيث يتخيل جليسه أنه يستهزئ به، رقيق القلب، بحيث يبكي إذا سمع بيتاً أو تفكر في نفسه أو خاض في علوم الصوفية وأرباب الأحوال ولم يكن يستصغر أحدا حتى يسمع كلامه فان أصاب استفاد منه، وعز الفائدة إليه وان كان صغير السن، وإن لم يرض بكلامه بين زيفه ولم يجاريه وإن كان أباه[25]، ولعل أوضح ما يوضح ذلك أنه كان يتعلم من تلاميذه بعض الفنون التي ينبغون فيها ولا يجد في ذلك حرجا ولا غضاضة.
جاء في ترجمة الإمام عبد الرحيم* ابن الإمام أبي القاسم القشيري: "تخرج على إمام الحرمين... و واظب على درسه، وصحبه ليلا ونهارا... وكان الإمام يعتد به، ويستفرغ أكثر أيامه معه، مستفيدا منه بعض مسائل الحساب في الفرائض والدور والوصية..."**. وليس هذا فقط، بل كان يعني بأقواله في الفقه- الذي هو علم إمام الحرمين الأول- لا يناقش هذه الأقوال، ويبحثها فحسب، بل كان يسجلها في كتبه، قال السبكي في نفس الموضوع السابق: "وأعظم ما عظم به الإمام عبد الرحيم، أن إمام الحرمين نقل عنه في كتاب الوصية، وهذه مرتبة رفيعة ".[26]
كما كان حر الرأي والضمير، لا يقلل احد، "فمنذ شبابه رفض أن يقلد والده وأصحابه، واخذ في التحقيق".[27] وفي هذا المجال لم يكن يحابي أحدا ولو كان أباه، أو أحد الأئمة المشهورين.[28]
وكان يتمتع بذاكرة نادرة، وحافظة لاقطة، وروو عنه أنه: "كان يذكر دروسا يقع كل واحد منها في عدة أوراق، ولا يتلعثم في كلمة منها، ولا يحتاج إلى إبدال كلمة منها، مكان غيرها، بل يمر فيها مراً كالبرق الخاطف بصوت مطابق كالرعد القاصف".[29]
كما تميز بصبر ودأب نادرين في طلب العلم والبحث، فمع أنه أقعد للتدريس مكان أبيه إلا أن ذلك لم يشغله عن البحث والدرس. "فكان يقيم الرسم، في درسه، ثم يخرج منه إلى مدرسة البيهقي، يتتلمذ على أبي القاسم الاسكاف".[30] "وكان يبكر قبل الاشتغال بالدرس بنفسه إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي، يقرا عليه القراءات، ويقتبس من كل نوع من العلوم".
جاء في التبيين: "عن أبي الحسن ابن عبد الله بن أبي الحسين: سمعت إمام الحرمين في أثناء كلام له يقول: أنا لا أنام، ولا أكل عادة، وإنما أنام إذا غلبني النوم ليلا كان أو نهارا وآكل إذا اشتهيت الطعام أي وقت كان... ثم يقول ابو الحسن: كانت لذته ولهوه وتفننه، في مذاكرة العلم وطلب الفائدة من أي نوع كان".[31]
كان يؤمن إن العلم لا نهاية له ولا حدود، وما كان يترك فرصة يستزيد فيها من العلم. في سنة 469هـ وهو في ذلك الحين إمام الأئمة فخر الإسلام، وقد جاوز الخمسين من عمره، قدم إلى نيسابور الشيخ ابو الحسن علي بن فاضل ابن علي المجاشعي النحوي، فقابله إمام الحرمين بالإكرام واخذ في قراءة النحو عليه، والتلمذة له، وكان له يحمله كل يوم إلى داره، ويقرأ عليه كتاب إكسير الذهب في صناعة الأدب .
وكان المجاشعي يقول: "ما رأيت عاشقا للعلم مثل هذا الإمام" وكذلك رزقه الله برقة القلب، وخشوعه، وشفافية نادرة، قالوا: "ومن رقة قلبه أنه كان يبكي إذا سمع بيتا، أو تفكر في نفسه ساعة، وإذا شرع بحكاية الأحوال، خاصة في علوم الصوفية، في فصول مجالسه بالغدوات، أبكى ببكائه وقطر الدماء من الجفون بزعقاته، وإشاراته لاحتراقه في نفسه، وتحققه مما يجري من دقائق الأسرار".[32]
ويصور السبكي هذا قائلا: "وإذا وعظ ألبس الأنفس من الخشية ثوباً جديداً ونادته القلوب، إننا بشر فاسجح،* فلسنا بالجبال ولا الحديدا".[33]
وقد اتجه إلى الصوفية، اتجاهاً أصيلاً غير مفتعل، عن علم لا عن تقليد، فقد وجهه هذه الوجهة، النتائج التي حصل عليها من دراسته لكل ما درس من العلوم، فقد درس "خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، وغاص في ما نهيت أهل الإسلام عنه" ولم يجد لكل هذه العلوم برد اليقين، وثلج الصدر، فعاد عنها إلى دين العجائز وهو منذ أخذ في البحث، يجد[34] العقل يقف في أمور لا يجول فيها، فجد في البحث واجتهد، ووجد أن كل ما يوصله إليه العقل، لا يحقق لذة المعرفة التي يبغيها، ولذا عاد إلى القلب واعتمده وسيلة العلم وطريق المعرفة[35].
كما عرف الإمام الجويني بالتواضع الاجتماعي[36]، واتصف بالبلاغة والفصاحة والأدب، ذاعت شهرته شرقاً وغرباً في أوساط الناس عجماً وعرباً، نابغ في حل المشكلات، وترد السؤالات عليه فلا يردها
أبداً على طرف اللسان جوابه فكأنمـا هي دفعـة صيِّب
يغدو مساجلـه بعزة صافح ويروح معترفا بذلة مذنب[37]
هذه هي صفات الإمام الكبير رغم أن الإنسان مهما ارتقى في معارج الكمال فانه لا يكمل ولا يمكن لأي عالم مهما علا كعبه في العلم أن يكون معصوما، فالأنبياء لم يعصمواْ إلا بعصمة الله لهم، ثم أن الإنسان قد تضطره مواقف إلى الإعتداد مثل ما تضطره مواقف أخرى إلى التواضع، وأن عالماً معتداً لا شك أنه خير ممن يتظاهر بالتواضع، ويدعي العلم وهو جاهل، يغطي جهله بإظهار التواضع.
فهذا الإمام بالإضافة إلى ما ذكرناه عنه، كان حريصاً على الابتكار والإضافة العلمية، وهذا يتجلى في[38] قوله: "خصلة أحاذرها في نفسي واتقيها وتعافها نفسي الأبية وتجتبيها (تكرهها) وهي سرد فصل منقول، عن كلام المتقدمين مقول، وهذا عندي يتنزل منزلة الاختزال والانتحال والتشيع لعلوم الأوائل، والإغارة على مصنفات الأفاضل، وحق على كل من تتقضاه قريحته تأليفاً وجمعاً وترصيفاً، أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يلغى في مجموع، وغرضاً لا يصادف في تصنيف، ثم أن لم يجد وداً من ذكرها، أتى به في معرض التذرع والتطلع إلى ما هو المقصود والمعمود"
"فكم فيه (في كتابه) من عقد في مشكلات فضضتها، وأبكار من بدائع المعاني، افتضضتها"[39]
أما كرمه وسخائه، فقد كان مضرب المثل، لم يشغل بمال يثمره ولا براتب يدخره، بل رووا أنه "كان ينفق من ميراثه، ومن معلوم له على المتفقهة"[40]تلك أطراف من صفاته، التي وصفه بها معاصروه، والمؤرخون له، وهناك بعض الصفات الأخرى، يمكن أن نستشفها من خلال مؤلفاته ومنها أنه كان من أحد أكبر الأئمة الأذكياء، واحد أوعية العلم[41]، معتزاً بعلمه، وربما ما يشهد بهذا الاعتـزاز وتلك الثقة أيضـا ما قاله في الفقرة 572 من البرهان الجزء الأول وهو يناقش تحمل الرواية وجهة تلقيها: "ولو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه...، وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول، وإذا نظر الناظر في تفاصيل هذه المسألة صادفها خارج الرد والقبول، على ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي...".
ويشهد لهذا أيضا قوله في البرهان فقرة 224 تعقيبا على عرضه لأنواع الجموع: "ونحن من هذا المنتهى نفرع ذروة في التحقيق لم يبلغ حضيضها، ونفترع معنى بكراً هو على التحقيق، منشأ اختباط الناس في عماياتهم".[42]
ومن قوله في اعتداده بنفسه علميا:"وتأتي من بالعجائب والآيات، ونبدي من سر الشريعة، ما لم يجر في مجال الخطرات" وقوله أيضا: "وأنا أتحدى علماء الدهر في ما أوضحت مسلك الاستدلال، فمن أبدى مخالفة فدونه والنزال في مواقف الرجال"، وقوله: "ومن أبى مسلكنا فهو عنود جحود أو غبي بليد".[43]
3-تكوينــه العـلمي.
3 - أ - طلبه العلم:
بدأ إمام الحرمين حياته العلمية من بيته، فقرأ على والده التفسير، والحديث والفقه، والأصول، والأدب، وقرأ عليه جميع مصنفاته، وكان يسجل ما له عليها من ملاحظات.[44]
قال ابن خلكان: "أتى على جميع مصنفات والده، وتصرف فيها حتى زاد عليه في التحقيق والتدقيق".
وقال بن الاهدل: "تفقه على والده في صباه، واشتغل به مدته، فلم توفي والده أتى على جميع مصنفاته، ونقلها ظهرا لبطن، وتصرف فيها، وخرج المسائل بعضها على بعض، ولم يرض بتقليد والده من كل وجه، حتى أخذ في تحقيق المذاهب والخلاف، سلك طريق المباحثة، والمناظرة، وجمع الطرق بالمطالعة، حتى أربى على المتقدمين وأنسى مصنفات الأولين".[45]
توفي والده وهو دون العشرين، فأقعد مكانه للتدريس، كما سمع الحديث في صباه من مشايخ آخرين، في أنواع العلوم حتى ظهرت براعته،[46] ولم يمنعه منصب التدريس في تحصيل العلم، بل كان يصل الليل بالنهار في سبيل ذلك، فقبل أن يبدأ في التدريس، كان يذهب مبكرا إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القران ويقتبس منه كل نوع من العلوم، ما يمكنه، ثم يرجع ويشتغل بالتدريس، وبعد فراغه كان يخرج إلى مدرسة البَيْهقي حتى حصل علم الكلام وأصول الفقه على الأستاذ الإمام، أبي القاسم الإسفراييني، وكان يواضب على مجلسه[47]، واستمر في تحصيل العلـم من صباه إلى شيخوخته، وكــان يتحين الفرصة للاستفادة مــــــن علمـاء عصــره، حيث أنــه في سنة أربعمـائة وتسـع وعشرون عندمـا قــدم أبو الحسن بن علي بن فضال المجاشعي إلى نيسابور، أخذ إمام الحرمين في قراءة النحو له، والتلمذة وكان عمره وقتئذ خمسين سنة، وكان إمام الأئمة في وقته، ولم يكتف، ولم يتكل الإمام على ما تلقاه من أساتذته وشيوخه، بل كان كثير المطالعة، كما كان يحكي عن نفسه فيقول:"كنت علقت عليه، أي الإسكاف الإسفراييني في الأصول أجزاء معدودة"[48].
وليس هذا بعجيب ولا غريب، بل هذا هو المعقول المأمول، فمهما إتسع وقت الأستاذ لتلميذه، فلن يحيط معه بأكثر من أجزاء معدودة.
فعلى أعلام العصر تتلمذ، وبكتب المكتبة الإسلامية للأئمة السابقين تعلم، ألم يقل: "ما تكلمت في علم الكلام، كلمة حتى حفظت من كلام القاضي أبي بكر اثنتا عشر ألف ورقة".
ألم يقل: "لقد حفظت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً".
ومن المؤكد أنه درس الفلسفة وعلومها المختلفة، يشهد لذلك ما نراه في مؤلفاته المختلفة من عبارات، ومصطلحات فلسفية، بل ومن منهج وطريقة.[49]
ويحكى أنه يوما قال للغزالي: يافقيه فرأى في وجهه التغيير، كأنه استقل اللفظة على نفسه، فقال له: افتح هذا البيت، ففتح مكانا، وجده مملوءاً بالكتب فقال له: ما قيل لي يافقيه حتى أتيت على هذه الكتب كلها.[50]
ومن خلال قوله: أنه خاض فيما نهى أهل الإسلام عنه، لاشك في ذلك بأنه يقصد العلوم الفلسفية، مع أنه غير معروف الكتب التي قرأها، ولا الفيلسوف الذي سمعه، ولا المتفلسف الذي تعلم منه.[51]
وكان يأخذ العلم حيث وجد، سواء كان صغيرا أو كبيرا، وكان لا يستكف أن يعزي الفائدة المستفادة، إلى قائلها، ويقول أن هذه الفائدة مما استفدته من فلان، ولو كان تلميذا له، ومن ذلك ما ذكره ابن عساكر في ترجمة ابن القشيري تلميذ إمام الحرمين: "إن الإمام كان يعتد به، ويستفرغ أكثر أيامه معه مستفيدا منه بعض مسائل الحساب في الفرائض والدور والوصايا"[52].
وقال السبكي: "إن إمام الحرمين نقل عنه أي-عن ابن القشيري- في كتاب الوصية من النهاية"[53].
واختار إمام الحرمين في تحصيل العلم طريق البحث والمناقشة، وترك التقليد، وإتباع الدليل، وكان لا يحابي أحدا في بيان ما ظهر لديه من الحق وان كان في ذلك مخالفا لأبيه.
قال أبو عبد الله الفراء: سمعت إمام الحرمين يقول: كان والدي يقول في دعاء قنوت الصبح: "اللهم لاتعقنا عن العلم بعائق، ولا تمنعنا عنه بمانع ".
قال إمام الحرمين: وكان أبو القاسم السياري يوما اقتدى بوالدي في صلاة الصبح، وقد سبق بركعة، فلما قضاها، قال في دعاء القنوت: هذا، فقلت له: لاتقل هذا في دعاء القنوت، قال: أنت تخرج على كل احد حتى أبيك[54].
وقال مرة: في الملاحظة على والده: "هذه زلة من الشيخ رحمه الله "[55].
3- ب- رحلاته العلمية :
تعتبر الرحلة وسيلة لاستتمام العلم وإكمال المعرفة، لأن بحر العلم لاساحل له، وليس بمحصور ببلد دون بلد، وكان عند علماء الحديث الاهتمام بذلك أكثر فأكثر، فالحديث واحد كانوا يقطعون مسافات شاسعة، ويرحلون إلى بلاد بعيدة، وقد أعطي إمام الحرمين، حظاً من ذلك، فقضى عشر سنوات خارج بلده متجولا في بلاد خراسان، وبغداد، والحجاز،[56].
فقد عرف عن علمائنا الأعلام في تلك الأزمان أنهم كانوا يصلون، نبع المعرفة أينما وجد، فمهما تعلم العالم ونبغ، من ثقافة بيئته، وعلم آله وبلده، وإقليمه، ومهما كانت منزلة العلماء الذين تعلم عليهم، فلا يتم له العلم إلا بالرحيل إلى المراكز العلمية المعروفة، التي كانت متعددة في ربوع العالم الإسلامي في ذلك الوقت، وكان العلماء يقومون بهذه الرحلات إيمانا منهم بأن العلم لا وطن له، وإيماناً منهم بأن العلم لانهاية له، وإيماناً بأن العالم مهما بلغ علمه، وارتفع شأنه فسيجد عند غيره فوائد أو زوائد قد لا تكون عنده، وكانوا في هذه اللقاءات، وتلك الرحلات، تبادل المعلومات، واختبار الأفكار والنظريات، فكانوا يسعون إلى اللقاء، مع مخالفيهم في المذهب، أوفي الطريقة، أو في مواقفهم[57].
وإمام الحرمين ليس كغيره من العلماء، اختار الارتحال إلى، بل اجبر عليه، وكان سبب خروجه من بلده، فتنة الكندري عام خمس وأربعون وأربعمائة للهجرة[58]، التي وقعت بمدينة نيسابور، قاعدة بلاد خراسان. إذ ذاك في العلم، وكان السلطان إذ ذاك ظغرلبك السلجوقي، الرجل الحنفي السني، العادل، الخير[59]، محباً لأهل العلم، من كبار الملوك وعظمائهم، وهو أول ملوك السلجوقية، وكان لهذا السلطان، وزير سوء، هو الوزير أبو نصر، منصور، بن محمد، الكندري، كان معتزلياً، رافضياً، يقول بخلق الأفعال، وغيره من قبائح القدرية، وسب الشخصين وسائـــر الصحابة، وغير ذلك من قبائح شر الروافض، وتشبيه الله بخلقه وكــان له مع ذلك تعصب عظيم، وانضم إلى كل هذا ، أن رئيس البلد، الأستاذ أبا سهل ابن الموفق، كان ممدحاً جواداً، ذا أموال وصدقات، وهبات، وكان مرفوقا بالوزارة، وداره مجتمع العلماء، وملتقى الأئمة من الطرفين، الحنفية والشافعية، في داره يناظرون، وعلى سماطه يتلقمون، وكان عارفاً بأصول الدين على المذهب الأشعري، فعظم ذلك على الكندري(*)، بما في نفسه من المذهب ومن بغض ابن الموفق خصوصا، وخشية من أن يثب على الوزارة، فحسن للسلطان وكان يقوم بأعمال الوشاية، وحبب للسلطان لعن المبتدعة على المنابر، فعند ذلك أمر السلطان بأن تلعن المبتدعة على المنابر، فاتخذ الكندري ذلك ذريعة إلى ذكر الأشعرية، وصار يقصدهم بالإهانة والأذى، والمنع عن الوعظ والتدريس وعز لهم عن خطابه الجامع، واستعان بطائفة من المعتزلة، الذين زعموا أنهم يقلدون مذهب أبي حنفية، واتخذوه سياجا عليهم، فحببواْ إلى السلطان الازدراء بمذهب الشافعي عموماً، و الأشعرية خصوصا[60].
ولما بلغ التوتر أشده، وزاد التعصب بين الأشعرية والمبتدعة، خرج إمام الحرمين مع المشايخ إلى بغداد[61]، وقد ملأت هذه الفتنة الآفاق، وشملت خراسان، والشام ، والحجاز، والعراق، وعظم بلائها، إذ أدى هذا الأمر إلى التصريح، بلعن أهل السنة في الجمع، وسبهم على المنابر، وصار أبي الحسن الأشعري بها أسوة لعلي بن أبي طالب، في زمن بني أمية، حيث استولت النواصب على المناصب، واستعلى أولئك السفهاء في المجامع والمرتب[62].
وأيما كان الأمر، فقد رحل إمام الحرمين عن نيسابور، واغتنم تلك الفرصة فأقام ببغداد تارة، وبأصبهان تارة أخرى[63]، وبغير بغداد، وأصبهان أحيانا أخرى، ولاشك أن بغداد برغم تضعضع مركزها السياسي كانت ما تزال من أكبر مراكز العلم والعلماء، وقد التقى فيها بأبي محمد الجوهري، وسمع منه الحديث بها ، وأما أصبهان فتاريخها معروف، حيث تعد نبع العلوم الإسلامية.
أخذ إمام الحرمين، يتردد بين هاتيك المراكز، يلتقي بالأكابر من العلماء، ويدارسهم ويناظرهم، حتى تهذب في النظر، وشاع ذكره، وما أن شعر بأنه، خبر ما عنده، وقاسه بما عند غيره من العلماء، واستفاد منهم، وأفادوا منه، وبعد أن انتهى من مناظرة هؤلاء، ومعرفة ما عندهم ، رحل إلى الحجاز، وهناك جاور بمكة أربع سنوات، يدرس ويفتي ويجمع، طرق المذهب، ويقبل على التحصيل[64].
وذكر ابن خلكان: انه جاور أيضا بالمدينة ومن هنا جاء لقبه الذي عرف به إمام الحرمين، وكان سنه إذ ذاك تقرب الأربعين[65]، وكانت تجربته قد استحصدت، وكان قد وصل إلى العلم الذي حاوله، وعلم أن لاعتاء فيه وحده، فهناك في الحرم، أضاء له نور قلبه، وبهداه أبصر، فكانت فترة مجاهدة للنفس، وإعلاء للروح والقلب، وكان لها أبعد الأثر في حياة إمام الحرمين، واتجاهه إلى التصوف، في آخر أمره.
ولم تكن هذه كل رحلاته، فقد روي انه خرج إلى أصبهان، في أعلى ما كان من أيامه[66]، فلقي بها من المجلس النظامي، ما كان اللائق بمنصبه، من الاستبشار والاعتزاز، والإكرام بأنواع المبار.
وفي سير أعلام النبلاء: أنه صحب الوزير أبا نصر الكندري مدة يطوف معه ويلتقي في حضرته بكبار العلماء، ويناظرهم، فتحنك بهم وتهذب وشاع ذكره[67].
وهذه الرواية، لا تقبل الصدق لان هذا الوزير، كان معتزليا، رافضيا متعصبا على أهل السنة، وهو الذي أثار الفتنة السابقة الذكر، وأغرى العامة بأهل السنة، فكيف يصطفي إمام الحرمين، ويجعله رفيقا؟، ثم إن الوزير، فتل شر قتلة، عقب هدوء ريح الفتنة، فمتى كان اصطفاؤه لإمام الحرمين؟ هل قبل الفتنة؟[68].
فالفتنة جاءت، له بالخير والبركة، حيث أتاحت له فرصة اللقاء مع كبار العلماء من غير نيسابور، والواردين عليها، لأنه لم يخرج من نيسابور قبل الفتنة[69]، حيث كان أثناء خروجه من نيسابور بمعية كل من الحافظ البيهقي و الأستاذ أبي القاسم القشيري[70] .
وسبب عدم خروجه قبل الفتنة هو اشتغاله بأخذ العلم في صباه عن والده وعن علماء نيسابور، وكانت نيسابور زاخرة بالعلم والعلماء، ولما بلغ السن الذي يكون فيه قابلا للسفر، أقعد مكان أبيه للتدريس[71]، فلم يجد فرصة للخروج منها، إلى أن اضطر إلى ذلك، ومن فوائد هذه الرحلة، مع ما استفاده من كبار العلماء حصوله على اللقب العظيم لقب إمام الحرمين[72].
وعاد إمام الحرمين إلى بلده نيسابور، عام ست وخمسون وأربعمائة للهجرة، بعد قتل الكندري، واستيناد الوزارة إلى نظام الملك، الذي أكرم منزلته[73] وبني له المدرسة النظامية في نيسابور، في أوائل ولاية السلطان آلب أرسلان السلجوقي، والوزير يومئذ نظام الملك(*)، فبنى له المدرسة النظامية التي تولى الخطابة بها، وكان يجلس للوعظ والمناظرة [74].
4- شيوخه و تلاميذه:
4- أ - شيوخه:
تبين لنا من خلال ترجمته، أنه تلقى الفقه أولا على يد والده، وكان أثر أبيه عليه كبيراً، إذ لقب "بركن الإسلام"[75] (والده) .
فوالده الإمام أبي محمد صاحب التفسير الكبير والتبصرة والتذكرة ومختصر المختصر، وشرح المزني، وشرح الرسالة للشافعي، وأتى على جميع هذه المصنفات وقلبها ظهرا لبطن، وتصرف فيها، وخرَّج المسائل، بعضها على بعض[76].
-وعندما أقعد للتدريس، كان إذا فرغ منه مضى إلى الأستاذ أبي القاسم الإسكاف (*) احد كبار الأشعرية (ت452هـ) بمدرسة البيهقي[77]، فتلقى عنه الكلام والأصول ، وتخرج بطريقته، ويبدواْ أنه سار على منهجه في السلوك أيضاً[78].
-ومن شيوخه الفقيه أبو بكر البيهقي النيسابوري (وهو احمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى المتوفي سنة 485هـ)، وكان له أثره البالغ أيضا على إمام الحرمين حتى وصفه بأنه (ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منه إلا البيهقي فإنه له على الشافعي منه لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله)[79] . كما تشير هذه العبارة إلى مدى براعة الجويني في الفقه المقارن حتى أصدر حكمه.
-كما كانت له دارية واسعة بآراء الباقلاني وكثيراً ما عرض لوجهات نظره إما مؤيداً أو معارضاً لها[80].
-أما الحديث، فقد سمعه من أبي بكر، احمد بن محمد، بن الحارث الأصبهاني التميمي كما[81] سمع من أبي سعد، عبد الرحمان بن حمدان النيسابوري النصروي، وأبي حسان محمد بن احمد المركزي ومنصور بن رامش[82].
-كما سمع من أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن يحي المزكي، وسمع سنن الدارقطني من أبي سعد عبد الرحمان بن الحسن بن عليك، وسمع من أبي عبد الرحمان محمد بن عبد العزيز النيلي[83].
-سمع من ابو عبد الله الخبازي وهو محمد بن علي بن محمد بن الحسن المقري النيسابوري كان شيخ القراء في وقته، رحل إلى الكشمهني، لسماع صحيح البخاري، فسمعه منه وحدث به، وتلى على والده، أبي الحسن الخبازي، وعلى أبي بكر الطرازي، كان يحي الليل بالقراءة والدعاء، والبكاء حتى قيل انه كان مستجاب الدعاء وكان إمام الحرمين يقرأ عليه القران، توفي سنة 449هـ[84].
-وأما النحو، فقد درس كتاب "إكسير الذهب في صناعة الأدب"، على مؤلفه، الشيخ أبي الحسن، علي بن فضال بن علي المجاشعي[85].
هؤلاء الأئمة الأعلام، هم الذين ذكرت الكتب أن إمام الحرمين تتلمذ عليهم ولاشك أن هناك غيرهم على سبيل المثال نجد:
-القاضي حسين بن محمد بن أحمد، ابو الماروذي شيخ الشافعية بخراسان (ت 462هـ).
-الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران المحدث، الفقيه، المتصوف توفي سنة 430هـ[86].
فهؤلاء الأئمة الأعلام، الذين لازمهم إمام الحرمين، ونبغ على أيديهم وكانوا الوعاء الذي سقاه، من مختلف العلوم والمعارف.
4- ب- تلاميذه:
إستمر إمام الحرمين في التدريس، إلى آخر حياته في بلده، سوى أيام الفتنة التي قضاها خارج بلده، متجولاً بين خراسان، وبغداد ومكة المكرمة، والمدينة[87] .
وكان يحضر مجلسه ثلاثة مائة متفقه، واشتغل عليه الطلبة، ورحلواْ إليه من الأقطار[88]، كما حضر دروسه الأكابر من الأئمة، وانتهت إليه رئاسة الأصحاب[89] كما قال تلميذه أبو الحسن عبد الغافر الفارسي: "وحضر درسه الأكابر والجمع العظيم من الطلبة، وكان يقعد بين يديه كل يوم، بنحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة ومن الطلبة، وتخرج به جماعة من الأئمة والفحول وأولاد الصدور، حتى بلغو محل التدريس في زمانه".
وقال السمعاني: "بارك الله في تلامذته، حتى صارواْ أئمة الدنيا مثل الخوافي والغزالي، والكيا الهراسي، والحاكم عمر النوقاني رحمهم الله".
ومن أشهر تلاميذته، الذين كانواْ أئمة في العلم، واستفاد منهم العالم[90]، وكان لهم أبلغ الأثر لنشر أفكاره، وإذاعتها، وهم على وجه الأخص الغزالي والخوافي والكيا، وصفهم الجويني بقوله:"الغزالي بحر مغدق، والكيا أسد مخرق، والخوافي نار تحرق" وتلميذه الأخير لازمه فكان من عظماء أصحابه وأخصاء طلابه، يذاكره ليله ونهاره، ودرس في حياة الإمام أيضاً[91].
وزيادة على التلاميذ الذين سبق ذكرهم، نجد: الباقلاني، الجرجاني، القشيري[92] .
وكنبذة موجزة عن تلاميذه نذكر:
1/ الغزالي:
أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الملقب بحجة الإسلام، كان فقيهاً، أصولياً متكلماً، متصوفاً، تفقه أولاً على الإمام أحمد الراذكاني بطوس، ثم حضر درس إمام الحرمين، وجد واجتهد، حتى تخرج عليه وفاق أقرانه، ودرس بنظامية بغداد، فحضر عنده رؤوس العلماء ومنهم أبو الخطاب وابن عقيل[93]، ويبدو تأثره بالجويني واضحاً في كتابه، "فضائح الباطنية" حيث نجد كثير من الأفكار والألفاظ المتشابهة كتلك التي يستخدمها إمام الحرمين، وأحياناً بألفاظها نفسها، وكان الغزالي وفياً لأستاذه، فقام باختصار كتاب في الفقه لإمام الحرمين، وهو كتابه في الفقه "نهاية المطلب"، توفي سنة 505هـ[94] .
2/ الكيا الهراسي:
هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري، الملقب بعماد الدين، كان مفسراً، محدثاً، فقيهاً، أصولياً، من أئمة الشافعية، تفقه على إمام الحرمين، قال عنه عبد الغافر الفارسي:"وكان ثاني الغزالي، بل أملح وأطيب في النظر والصوت، وأبين في العبارة والتقرير منه، وإن كان الغزالي أحد وأصوب خاطراً، وأسرع بياناً وعبارة منه"[95].
سمع الحديث الكثير، وناظر وأفتى، ودرس بنظامية بغداد من تصانيفه "أحكام القران". توفي سنة 504هـ .
قال عنه ابن خلكان: "كان محدثاً يستعمل الأحاديث في مناظراته ومجالسه ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميدان الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الريح"[96] .
3/ ابن القشيري:
الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوزان القشيري، رباه أبوه أحسن تربيه ودرسه علم التفسير والكلام والفقه والحساب، ولما توفي أبوه انتقل إلى مجلس إمام الحرمين، وتفقه عليه، وكان إمام الحرمين يعتد به، ويستفيد منه بعض مسائل الحساب.
وصفه عبد الغافر الفارسي بإمام الأئمة وحبر الأمة، وقال: "وقلما كان يخلو مجلسه من إسلام إمام جماعة من أهل الذمة"[97].
وقال ابن كثير:" وروى الحديث عن جماعة، وكان ذا ذكاء وفطنة، وله خاطر جريء ولسان ماهر فصيح"[98] صنف "المقامات والآداب" في التصوف والوعظ توفي سنة 514هـ[99] .
4/ ابو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي النيسابوري:
كان فقيهاً أديباً، مؤرخاً، إماماً في الحديث، قرأ القرآن الكريم، ولقن الاعتقاد بالفارسية وهو ابن خمس سنين، وتفقه على إمام الحرمين ولازمه أربع سنوات، سمع الحديث على أبي القاسم القشيري وعلى والديه، وعلى جدته فاطمة بنت أبي علي الدقاق، وجماعة كبيرة سواهم.
قال الذهبي: "كان من أعيان المحدثين، بصيراً باللغات، فصيحاً بليغاً عذب العبارة"[100] وصنف كتباً كثيرة منها "السياق لتاريخ نيسابور" و"المفهم لشرح غريب صحيح مسلم" و"مجمع الغرائب في غريب الحديث"، وغير ذلك توفي سنة 529هـ[101] .
5/ الخوافي:
الإمام أبو المظفر أحمد بن محمد بن المظفر النيسابوري، الفقيه الشافعي تفقه أولاً على أبي إبراهيم الضرير، ثم على إمام الحرمين ولازمه، فكان من عظماء أصحابه وأخصاء طلابه، يذاكره في ليله ونهاره، وكان مشهوراً بين العلماء بحسن المناظرة وإفحام الخصوم حتى قيل: رزق الغزالي السعادة في تصانيفه والخوافي السعادة في مناظرته[102] وكان إمام الحرمين يثني على حسن مناظرته، درس في حياة إمام الحرمين ولي فضاء طوس، تفقه عليه عمر القطان ومحمد بن يحي وغيرهما، توفي بطوس سنة خمسمائة[103].
5- صلتــه بالحكــام:
كانت للجويني صلة بالسلطان آلب أرسلان، ووزيره نظام الملك، في عهد السلجوقي، وتتلخص صلته بالحاكم بأنها صلة عالم صالح، بحاكم صالح، فهو رقيب وناصح وليس بمنافق ولا مداهن، ولا غشاش، ولا يباع ولا يشترى، فهناك علماء يشتريهم الحكام، ويسهلون عنهم حياتهم، حتى قد يتوهمون، أو يوهمون أنفسهم، بأن الإنسان العادي، مثلهم في من الحقوق والتسهيلات .
ولا ريب أن مقياس التقدم والتحضر في أي مجتمع، إنما هو مشاعر الإنسان العادي، لا في مشاعر ذو السلطة والثروة، والنفوذ والجاه، فإذا كان هذا الإنسان يحصل على حقوقه، بلا واسطة، ولا رشوة، ولا إذلال ولا تعتعة فإن المجتمع يكون متقدماً فعلاً، وأما إذا كان لا يحصل على حقوقه أو على جزء قليل منها، إلا بشق الأنفس، والاستغلال، والإبتزاز، فإن المجتمع يكون فاسداً، وقادته من الفاسدين المفسدين، برغم الادعاءات، والانجازات والأرقام والمؤشرات الكاذبة والشعارات والخطب المضللة، فهذا الإنسان لا يلقي بالاً لما يقال ويكتب ويدعى وإنما يلقي بالاً لما يحسه فعلاً في حياته ومعيشته ونشاطه، إن الأمة المتقدمة هي الأمة التي : <<يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع>>[104].
6- مذهبه :
6 – أ )- مذهبه في الفقه والفروع:
ينتسب الجويني إلى مذهب إمامه الشافعي (204هـ)، صاحب مصنف الأم، وفيه الماوردي (405هـ) صاحب الحاوي الكبير، والشيرازي (456هـ) صاحب المذهب، والغزالي (505هـ) صاحب الأحياء، والرازي (606هـ) صاحب التفسير، والعز بن عبد السلام (660هـ) صاحب المجموع، وابن حجر (852هـ) صاحب فتح الباري.....وغيرهم[105] .
إن هذا المذهب الذي يضم هذه النخبة العظيمة من العلماء، لا شك أنه مذهب متميز لأنه قلما نجد مثلهم في مذاهب أخرى.
ومع قدرة الجويني العالية في الاجتهاد، وبرغم مخالفته للإمام الشافعي في بعض الأحيان، إلا أنه بقي على مذهبه. قال: << قال وقد شهدت بصحة مذهبه الأخبار الصحيحة، والنصوص الصريحة، وسير الخلفاء، ومذاهب العلماء قبل ظهور اختلاف الآراء>>[106].
وقال إمام الحرمين : << ما من شافعي المذهب؛ إلا وللشافعي عليه منه إلا أحمد البيهقي، فإنه له على الشافعي منه لأنه كان أكثر الناس نصر للمذهب الشافعي>>[107].
والشافعي من المتانهين في البحث عن المطالب، وتحل المذاهب، وبالاهتمام بالنظر في المناصب والمراتب، ونظره في التأصيل والتفصيل، والتنويع والتفريغ، أغوص من نظر من علماء الزمان.
فإذا نظر الناظر إلى مذهب الشافعي عرف أنه أعرف الأئمة بكتاب الله تعالى فإنه عربي مبين، وأما الشافعي فإنه أعرف خلق الله بأصول الشريعة[108].
6 – ب ) مذهبه في الاعتقاد :
كان إمام الحرمين أشعري العقيدة، وعلى هذا جميع مؤلفاته[109]، ويعتبر من الأتباع الأقوياء لأبو الحسن الأشعري، الذين أخذواْ مذهبه ودعواْ إليه، ودعموه بالأدلة والبراهين، كما هو الحال بالنسبة للإسفراييني والباقلاني[110].
وبعد وفاة الأشعري بمدة تزيد على مائة عام نجح الجويني في أن يجمع حوله أتباع المذهب الأشعري، ومنهم الغزالي، وقد سار الجويني في أهم أفكاره على نهج شيخه كما سماه هو بنفسه في مؤلفاته.
فعن أبي إسحاق الإسفراييني أخذ أبو القاسم عبد الجبار الإسفرابيني وعنه أخذ إمام الحرمين وعن إمام الحرمين أخذ الغزالي ومنه انتشر المذهب انتشاراً واسعاً[111].
كما أضاف إلى علم التوحيد دعائم فكرية عميقة، حتى قيل أن المذهب الأشعري بدأ منذ عهده[112]. ويعتبر الجويني أول من بنى طريقة فقهية شافعية على أساس المذهب الأشعري، وقد عرضها في كتابه "الإرشاد في أصول الإعتقاد"[113]، كما تبدو أشعريته واضحة في كتاب "التلخيص في أصول الفقه"[114] .
ومنه نستخلص أن إمام الحرمين تابع منهج أسلافه من الأشاعرة، وقد توثقت في شخصه الصلة بين الأشاعرة كمذهب كلامي وبين الشافعية كمذهب فقهي[115].