الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين،أما بعد،،،
فتظهر أهمية دراسة موضوع 'الفسق' عندما نعلم أن أول نزاع ظهر في الإسلام كان في مسألة الفاسق الملي، فقد أحدث الخوارج القول بتكفير عصاة الموحدين وتخليدهم في النار، وزعمت المرجئة أن أولئك العصاة كاملو الإيمان، وقالت المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين في الدنيا، مع التخليد في النار في الآخرة.
وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فقالوا عن أولئك العصاة: إنهم مؤمنون، ناقصو الإيمان، أو مؤمنون بإيمانهم، فاسقون بمعاصيهم، وأنهم تحت مشيئة الله في الآخرة، إن شاء عذبهم بعدله، وإن شاء غفر لهم برحمته.
كما أن الفسق من الوعيد الذي يترتب عليه نتائج وتبعات، كما قال ابن تيمية:'اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل 'الأسماء والأحكام' التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة ...'. إضافة إلى ذلك فقد حذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحكم بالفسق على شخص ما دون بينة، وإقامة للحجة، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ] رواه البخاري.
ومما يؤكد أهمية دراسة هذا الموضوع، أن الفسق اسم عام يشمل الكفر، والكبائر، وبقية المعاصي، ولذا يتعين العلم بحد الفسق وإطلاقه، ولعل في الصفحات التالية ما يحقق شيئًا من ذلك.
معنى الفسق
الفسق لغة: الخروج عن الشيء، أو القصد، وهو الخروج عن الطاعة، والفسق: الفجور.
وأما المقصود بالفسق اصطلاحًا:فقد تنوعت عبارات العلماء في ذلك، ومنها:
يقول ابن عطية:'الفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله ـ عز وجل ـ فقد يقع على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان' [ تفسير ابن عطية 1/155]. وكذا قال القرطبي[تفسير القرطبي 1/245].
وقال الألوسي:'الفسق شرعًا: خروج العقلاء عن الطاعة، فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة، واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة، فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرًا بقرينة'[ تفسير الألوسي 1/210].
أقسام الفسق وإطلاقاته: الفسق له عدة أقسام باعتبارات مختلفة، فهو ينقسم إلى:
فسق يخرج عن الإسلام.
وفسق لا يخرج عن الإسلام، قال محمد بن نصر المروزي رحمه الله:'والفسق فسقان: فسق ينقل عن الملة، وفسق لا ينقل عن الملة، فيسمى الكافر فاسقًا، والفاسق من المسلمين فاسقًا'.
وفسق الكفر هو المذكور في غالب آيات القرآن الكريم، وكما قال ابن الوزير:'قد ورد في السمع ما يدل على أن الفاسق في زمان النبي، صلى الله عليه وسلم، يطلق على الكافر كثيرًا، كقوله تعالى:} إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[67]{. [سورة التوبة] وقوله تعالى: }وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ[99]{. [سورة البقرة]... وذكر آيات كثيرة ثم قال:'فهذه الآيات دالة على أن الفاسق في العرف الأول يطلق على الكافر، ويسبق إلى الفهم'[ العواصم والقواصم 2/160، 161 ـ باختصار].
أقسام الفسق الذي لا يخرج من الملة:
الفسق الذي لا يخرج من الملة يمكن تقسيمه إلى فسق الاعتقاد، وفسق العمل.
ومثال فسق الاعتقاد ها هنا: ما قاله ابن القيم :'فسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، ويحرمون ما حرم الله، ويوجبون ما أوجب الله، ولكن ينفون كثيرًا مما أثبت الله ورسوله، جهلاً وتأويلاً، وتقليدًا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله ...'[ مدارج السالكين 1/362].
فالفسق أعم من البدعة، حيث يطلق الفسق على البدعة وغيرها؛ ولذا قال ابن الصلاح:'كل مبتدع فاسق، وليس كل فاسق مبتدعًا'[ فتاوى ابن الصلاح ص28 [ضمن مجموعة الرسائل المنيرية جـ4].].
وأما فسق العمل فأمثلته كثيرة: وإطلاقاته متعددة، كما جاء ذلك في النصوص الشرعية، وآثار أهل العلم، ولعل ما يضبط ذلك ما قاله النووي رحمه الله:'وأما الفسق فيحصل بإرتكاب الكبيرة، أو الإصرار على الصغيرة'[ فتاوى النووي ص261].
فأما ضابط الكبيرة: فأصح الأقوال أن الكبيرة: هي ما فيها حد في الدنيا، أو وعيد خاص في الآخرة، كالوعيد بالنار، والغضب، واللعنة، وأن الصغيرة ما ليس له حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة.
وهذا المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن عيينة، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد القاسم بن سلام [مجموع فتاوى ابن تيمية 11/ 650، وشرح الطحاوية 2/526، وأضواء البيان للشنقيطي 7/199].
جملة من النصوص والآثار من الاطلاقات على هذا الفسق العملي:
فيسمى القاذف فسقًا، كما جاء في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[4]} [سورة النور].
ويطلق على الكاذب فاسقًا، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[6]} [سورة الحجرات].
وتسمى محظورات الإحرام فسوقًا، حيث يقول تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ...[197]} [سورة البقرة]
فالفسوق ها هنا محظورات الإحرام كما اختاره ابن جرير وغيره.
ويعد التنابز بالألقاب فسوقًا، كما في قوله تعالى: { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ...[11]} [سورة الحجرات].
وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الرويبضة فويسقًا، فقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ] قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ: [ الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ]رواه أحمد، وقال ابن كثير في النهاية1/57] عن هذا الحديث:'وهذا إسناد جيد تفرد به أحمد من هذا الوجه'.
والرويبضة تصغير الرابضة، وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها.
وفي الجملة، فقد يقال: عن هذه المعاصي التي سميت فسقًا عمليًا أعظم ممن دونها من معاصٍ لم تسم فسقًا، وكما قال البيضاوي:'والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمته كأنه متجاوز عن حده'[ تفسير البيضاوي 1/72].
ضرورة عدم الخلط بين مفهوم الفسق عند أهل السنة، ومخالفيهم:
فمرتكب الكبيرة عند أهل السنة مع أنه فاسق بكبيرته، إلا أنه لا يخرج من الإيمان بالكلية، فيمكن اجتماع الإيمان مع هذا الفسق الأصغر ـ كما هو مقرر عند أهل السنة ـ، ومن ثم فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له برحمته، وإن شاء عذبه بعدله، ومآله إلى الجنة فيما بعد؛ فأهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها ـ فإنهم لابد أن يدخلوا الجنة.
يقول ابن تيمية ـ مقررًا هذه المسألة ـ:'ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان،وعمل القلب والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ...[178]}{ [سورة البقرة]. وقال سبحانه{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[9]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ...[10]} [سورة الحجرات].
ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار، كما تقول المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ...[92]} [سورة النساء] وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً...[2]} [سورة الأنفال].
وقوله صلى الله عليه وسلم: [لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ] رواه البخاري ومسلم. ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطي الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم'[ العقيدة الواسطية [بشرح محمد خليل هراس] ص152 ـ 156].
وإذا تقرر مفهوم الفسق عند أهل السنة، فإننا نورد مفهومه عند المخالفين:
فأما الأشاعرة: فنجد فيهم من يجعل الفاسق الملي مؤمنًا بإطلاق، ويعتبرونه مؤمنًا حقًا.
وقد سبق أن ذكرنا أن مرتكب الكبيرة ـ عند أهل السنة ـ لا يعطي الإيمان المطلق، فلا يقال عن الزاني، أو شارب الخمر ـ مثلًا ـ: إنه مؤمن بإطلاق، ولكن نقيده، فنقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.
ومقالة أولئك الأشاعرة متفرعة من قول جمهورهم بأن الإيمان هو التصديق، حيث أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان.
أما المعتزلة: فمفهوم الفسق عندهم على عكس المقالة السابقة، فالفاسق عندهم ليس مؤمنًا، كما أنه ليس كافرًا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، ولم يقل أحد من المعتزلة بإيمان مرتكب الكبيرة سوى الأصم. ولما كان مرتكب الكبيرة ـ عندهم ـ فاسقًا غير مؤمن، لذا حكموا عليه بالخلود في النار.
هذا ما تيسر جمعه في هذا المبحث، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.