ومعلوم من النصوص بثبوت الإشارة إلى الرب - تبارك وتعالى - من فعل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أعلم الخلق بربه - عز وجل - ، فقد رفع إصبعه إلى السماء - وهو يخطب في حجة الوداع في جمع عظيم من الصحابة - ، وهو يقول : ( ألا هل بلغت ) .
قالوا : نعم ـ ثلاثًا ـ ، ثم قال : ( اللهم أشهد ) ، يشير بإصبعه الشريف الكريم إلى السماء كما في " صحيح مسلم " ، وغيره .
وثبت أيضًا من تقريره كما في حديث الجارية - وهو في " صحيح مسلم " أيضًا - ، بل إن ذلك ثابت فطرةً وعقلاً من حيث انصراف القلوب والأكف نحو العلو والسماء خاصة عند السؤال والدعاء والاضطرار ، ومن حيث اتفاق العقلاء أن العلو كمال ، وحق الباري - جل وعلا - الكمال المطلق ، والعلو والسمو في الشأن والقدر ، وفي القهر والقوة والغلبة ، وفي الذات والمكان أيضًا .
يقول ابن تيمية - رحمه الله - : ( علو الخالق على المخلوق ، وأنه فوق العالم والعباد ، معلوم لهم بالضرورة ، كما اتفقت عليه جميع الأمم ... وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرتهم ، وكذلك عندما يضطرون إلى قصد الله وإرادته ، مثل قصده في الدعاء والمسألة وإلى توجيه قلوبهم إلى العلو ... ولا يجدون في قلوبهم توجهًا إلى جهة أخرى ... بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقتصر جهة علوهم دون غيرها من الجهات .... ) . " درء التعارض " : (7/5) .
وهذا الإمام الذهبي في كتابه " العلو " حيث ذكر الآيات في العلو والفوقية ، وأنه - سبحانه - في السماء حيث بدأ - رحمه الله - بذكر الأحاديث في ذلك يقول : ( فمن الأحاديث المتواترة الواردة في العلو ، حديث معاوية بن الحكم السلمي .... ) .
فبدأ بهذا الحديث أول ما بدأ - رحمه الله - ، وهو الحديث الذي لم يزل أهل الأهواء والبدع - ولا يزال أتباعهم - يردونه بلوازمهم العقلية الجدلية الكلامية ، وبإثارة الشبه العقلية الفلسفية المتنوعة ، يوهمون أنفسهم وأتباعهم بصحة تلك المناهج الكلامية العقلية في رد نصوص الوحي من كتاب وسنة ، أو الأشتغال بتأويلها عن ظاهرها لتوافق قواعدهم وفلسفاتهم ومناهجهم المخالفة لمنهاج النبوة والصحابة .
وأجد نفسي هنا مضطرًا لنقل أقوال بعض الأئمة الأعلام لعلها تسهم في فتح القلوب وإزالة الران عنها والاستجابة لله تعالى ولرسوله .
وهذه النقول مما ذكرها الإمام الهمام الذهبي في " العلو " :
عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - أنه قرر : ( أن الله في السماء دون الأرض ) .
وذكر عن أبي محمد بن قدامة المقدسي أنه بلغه عن الإمام أبي حنيفة أنه قال : ( من أنكر أن الله في السماء فقد كفر ) .
ونقل عن البيهقي في " الأسماء والصفات " - رحمه الله - عن الإمام الأوزاعي - رحمه الله - قوله : ( كنا والتابعون متوافرون نقول : أن الله - عز وجل - فوق عرشه ، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته ) .
ونقل من كلامه أيضًا : ( عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس ، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول ) .
وعن سالف قوله : ( الله في السماء وعلمه في كل مكان ، لا يخلو منه شيء ) .
وعن ابن المبارك لما سئل : كيف نعرف ربنا - عز وجل - ؟
قال : ( في السماء السابعة على عرشه ، ولا نقول كما تقول الجهمية إنه ها هنا في الأرض ) .
ونقل عن الإمام الشافعي - رحمه الله - قوله : ( القول في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما ... أن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف يشاء ، وينزل إلى السماء الدنيا كيف يشاء ) .
ونقل عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه قيل له : الله فوق السماء السابعة على عرشه .... من خلقه ، وقدرته وعلمه بكل مكان ؟
قال : ( نعم هو على عرشه لا يخلو شيء من علمه ) .
ثم ذكر - رحمه الله - نمو هذه الأقوال عن طائفة عظيمة من الأئمة الأعلام ، منهم اسحاق بن راهويه ، والمزني ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم الرازيان ، وابن قتيبة الدينوري ، وابن أبي عاصم الشيباني ، وأبو عيسى الترمذي ، وابن ماجه القزويني ، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، وأبو جعفر الطحاوي ، وأبو الحسن الأشعري - الذي فصل في الرد على شبه المتكلمين ومناقشتها وبيان أوجه فسادها - ، وأبو محمد الحسن بن علي البربهاري ، وأبو القاسم الطبراني ، وأبو بكر محمد بن الحسن الأجري - الذي رد على المخالفين من أهل التعطيل والتأويل مذكرا إياهم ( بأنهم يجدون في النصوص أنه - عز وجل - في السماء تأويلاً وتحريفًا وصرفًا للألفاظ عن ظواهر معانيها ) .
يقول - رحمه الله - : ( فأين هم من : لما قضى الله - عز وجل - الخلق كتب كتابًا - فهو عنده فوق العرش - إن رحمتي غلبت غضبي ) . متفق عليه .
فكيف يتعاملون ( مع فوق العرش ) ؟
والعرش معلوم أنه سقف المخلوقات التي أعلاها السماوات ، ثم الرب - عز وجل - فوق العرش وفوق السماوات والمخلوقات جميعًا .
والنقل عن الأئمة - رحمهم الله جميعًا - ، ولكن فيما ذكرت كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
وأخيرًا أذكر بما تقرر عند العقلاء من عدم جواز إبطال نصوص الكتاب والسنة بالتأويلات والالزامات والتعليلات العقلية التي حملتهم على الاعتقاد بأن الله تعالى لو كان في السماء لكان في جهة ، أو كان مظروفًا تحيط به السماوات المخلوقة والأجرام المحدودة ، ولو كان مستويًا على عرشه لكان محتاجًا مضطرًا لمخلوق قياسًا بأن من استوى على شيء يكون محتاجًا لما قد استوى عليه ، وما هذه إلا بسبب مناهجهم وقواعدهم العقلية التي قدموها على النقل حتى في أبواب الاعتقاد والغيب فراحوا ينظرون إلى صفات الباري - جل وعلا - بما يعرفون في المخلوق من لوازم ومقتضيات .
فأقول ناصحًا ومذكرًا :
اعلموا - جمعنا الله وإياكم على الحق والهدى - أن الله تعالى أثبت لنفسه العلو والاستواء وأنه في السماء ثم رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - أثبت ذلك أيضًا وأكده بما تواتر عنه - عليه الصلاة والسلام - قولاً وفعلاً وتقريرًا ، ثم السلف الكرام والصحابة الأعلام أثبتوه وقرروه بأنواع وأساليب من التقريرات .
ثم إنه والله لمن العجب العجاب جرأة أقوام من المتأخرين الخلوف على تلك النصوص وأفهام ومقامات السلف ، بالإنكار والرد والتأويل ، ثم هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، فقد زعم قديمًا أسلافهم الخلوف ، ثم وما زال ينعق الاتباع مرددين مقالة أولئك الأسلاف بأن مذاهبهم ومناهجهم وأفهامهم للدين والاعتقاد أعلم وأحكم مما كان عليه الجماعة الأولى ، سلف الأمة وسادتها الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - .
فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .