لم يكن - بالطبع - معصوماً عن الخطأ، لكنه كان عظيماً بكل ما تحتويه هذه الكلمة من آفاق وأعماق. تقرأ سيرته فتتضاءل نفسك أمامك حتى لكأنك طفل صغيرٌ أمام عملاق، أو نملةٌ أمام جبل! إنه دنيا من النبل والمكارم، والسجايا والمزايا، والنبوغ والعبقرية، والعلم والعمل، وأشياء أخرى.. إنه أحمد بن حنبل رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، وأعلى مقامه عنده، وأكرمنا بصحبته في دار كرامته.
كان أستاذنا الشيخ أحمد عز الدين البيانوني - رحمه الله - يقول: عجباً لأمواتٍ تحيا بذكرهم النفوس، ولأحياءٍ تموت بمجالستهم القلوب!! أما الصنف الثاني فما أكثره، وأما الصنف الأول فما أقله! ومنه العلم الشامخ: أبو عبدالله، أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة، المولود عام 164هـ المتوفى عام 241هـ.
قال الإمام الشافعي، شيخ الإمام أحمد، المتوفى عام 204هـ: "خرجت من العراق، فما خلفتُ بالعراق رجلاً أفضل، ولا أعلم، ولا أتقى من أحمد بن حنبل"!
وقال الإمام الحافظ العلم يحيى بن معين: "أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل؛ لا والله ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد بن حنبل، ولا على طريقته".
وقال عنه الإمام ابنُ حبان، صاحب الصحيح : "كان حافظاً، متقناً، فقيهاً، ملازماً للورع الخفيّ، مواظباً على العبادة الدائمة، أغاث الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه ثبت في المحنة، وبذل نفسه لله، فعصمه الله تعالى، وجعله علماً يُقتدى به، وملجأً يُلجأ إليه".
وقال عنه مؤرخ الإسلام العلامة الإمام الحافظ الذهبي: "شيخ الإسلام، وسيد المسلمين في عصره، الحافظ الحجة، كان إماماً في الحديث وضروبه، إماماً في الفقه ودقائقه، إماماً في السنة وطرائقها، إماماً في الورع وغوامضه، إماماً في الزهد وحقائقه".
تمسّكه بالسنة:
كان شديد التمسك بالسنة فعلاً وتركاً إلى درجة مُدهشة:
رجة مُدهشة:
قال: ما كتبتُ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملتُ به. وقد احتجم، وأعطى الحجّام ديناراً (من الذهب)؛ لأنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً. واختفى عند إبراهيم بن هانئ أيام المحنة ثلاثة أيام، ثم أصر على الخروج إلى موضع آخر ليختبئ فيه، وقال: اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام، ثم تحوّل، وليس ينبغي أن نتبع رسول الله عليه الصلاة والسلام في الرخاء، ونتركه في الشدة!!
ورع الإمام أحمد:
معنى الورع في الأصل: الكفّ عن المحارم، والامتناع عنها، ثم أصبح: البعد عن الشبهات. روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: "كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام"!
وأسارع فأقول: إن هذه الدرجة الدقيقة، والطريقة الصعبة العسيرة التي أخذ العظماء بها أنفسهم، لا ينبغي إلزامُ الناس بها. ويحضرني - في هذه المقام - كلمة سمعتها من والدي، الشاعر الإسلامي الراحل: عمر بهاء الدين الأميري - رحمه الله -معناها: ينبغي للعاملين في حقل الدعوة الإسلامية أن يأخذوا أنفسهم بما يطيقونه من عزائم الدين، وأن يأخذوا الناس بما يتسع له صدر الإسلام من الرخص. ولعمري، ما أحكم هذا الكلام وأسلمه!
عاش الإمام أحمد فقيراً، كثير العيال، ولم يكن له غلةٌ إلا ملكٌ ورثه عن أبيه أجرته في الشهر (17) درهماً، ينفقها على عياله، ويقنع بذلك حامداً، شاكراً، صابراً، محتسباً. وربما اضطُر فنسخ بالأُجرة ومع ذلك كان لا يرضى أن يأخذ من مال السلطان.
ومن ورعه في الفقه أنه كان إذا صحّت لديه روايات متعددة عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، لم يحاول الترجيح بينها، بل يثبتها كلَّها، وتُروى عنه، وليس ذلك عجزاً عن الترجيح كما يظن بعض الناس، فهو إمام في الفقه، لكنه كان يتورع أن يلتزم بقول أحدهم، ويكون الصواب مع غيره!
ره!
وبعث الخليفة المأمون مرة دنانير ذهباً تُقسم على أصحاب الحديث، فما بقي أحدٌ منهم إلا أخذ، ما عدا الإمام أحمد فأبى. وأكتفي بهذا القدر القليل الذي يناسب المقام، وإلا فورعه يطول الكلام عنه.
زهده رحمه الله:
أساس الزهد قوله تعالى: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } [النساء : 77] وعرّفه الإمام أحمد فقال: هو عدم الفرح بإقبال الدنيا، وعدم الحزن على إدبارها. وقد صنف في الزهد كتاباً عظيماً، أغلب الظن - كما قال الحافظ الإمام ابن كثير - أنه كان يأخذ بما أمكنه منه.
قال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس آخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط. وقال مرة لابنه صالح: إذا لم يكن عندي قطعةُ - يعني من المال - أفرح! وقال: ما أعدلُ الفقر شيئاً، وصدق - رحمه الله - إذ صبر على الفقر طول عمره.
وكان رحمه الله عفيفاً، لا يرضى أن يأخذ شيئاً من أحد على شدة حاجة: رهن نعله مرة عند خباز ليأكل، وأكرى نفسه (أي : اشتغل أجيراً) عند ناس من الجمالين، ونسخ بالأجرة، ونسج "التكك" وباعها، وأبى أن يأخذ مالاً، لا قرضاً، ولا هدية، من شيخه الإمام عبدالرزاق .
غفر الله لأحمد بن حنبل، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويا ليتنا نحن الذين نقول: إننا حنفيةٌ، أو مالكية، أو شافعية، أو حنابلة، ليتنا نقتدي بأولئك الأئمة في أخلاقهم، وعاداتهم، ودينهم، وعبادتهم، لا في فقههم فقط والله المستعان